إفتح حسابك مع شركة XM  برعاية عرب اف اكس
إفتح حسابك مع تيكيمل

برنانكي بين القول والفعل

طارق جبور

المدير العام
طاقم الإدارة
المشاركات
82,631
الإقامة
قطر-الأردن

xm    xm

 

 

حينما تفجرت الأزمة المالية عام 2008، كان هناك أمر واحد على الأقل يطمئن خبراء الاقتصاد وسط هذا الموقف، وهو أن أفضل شخص ممكن كان يشغل منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهذا الشخص هو بين برنانكي.

وقد كان برنانكي، وما زال، خبيرا اقتصاديا من الطراز الأول، وقد سبق له، حتى قبل انضمامه إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي، أن ألف كثيرا من الدراسات الأكاديمية عن الانهيار الكبير واليابان الحديثة، تحدث فيها عن نفس المشكلات بالضبط التي واجهها العالم في أواخر عام 2008، وكان يلح على ضرورة اتخاذ رد فعل قوي ومعاقبة بنك اليابان، وهو نظير مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، على سلبيته. وبالتالي، كان من المفترض أن يكون مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحت قيادته مختلفا تماما.

ولكن بدلا من ذلك، نجد أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد تدخل بكل ما أوتي من قوة لإنقاذ النظام المالي، بينما فعل أقل من ذلك بكثير في سبيل إنقاذ العاملين. وما زال الاقتصاد الأميركي يعاني من حالة كساد خانقة، في ظل استمرار ارتفاع معدلات البطالة طويلة الأجل بالذات إلى مستويات خرافية، وهو أمر أكد عليه برنانكي نفسه مؤخرا. ومع ذلك، فإن مجلس الاحتياطي الفيدرالي لا يتخذ أي إجراء قوي لعلاج الموقف.

ومن الممكن العثور على عدة تفسيرات لهذا اللغز المحير، الذي يتمثل في ذلك التباين بين ما كان الأستاذ الجامعي برنانكي ينادي به وما فعله الرئيس برنانكي بالفعل. فلربما كان الأستاذ الجامعي برنانكي مخطئا، ولا يوجد ما يفعله صانع السياسات أكثر من هذا. أو ربما كانت السياسة هي العائق، وكان الرئيس برنانكي مجبرا على إسكات صوت الأستاذ الجامعي بداخله. أو ربما كان الأكاديمي السابق قد تأثر بالمنصب وتحول إلى مجرد مسؤول تقليدي بالبنك المركزي. ولكن أيا كان التفسير الذي تذهب إليه، فالحقيقة هي أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي لا يقوم بالوظيفة التي كان كثير من خبراء الاقتصاد يتوقعون منه أن يقوم بها، والنتيجة هي معاناة جماعية للعاملين الأميركيين.

يتولى مجلس الاحتياطي الفيدرالي مسؤولية مزدوجة، وهي المحافظة على استقرار الأسعار وتحقيق أقصى معدلات من التوظيف، وهو يحاول في العادة تحقيق هذين الهدفين عن طريق التحكم في أسعار الفائدة قصيرة الأجل، وهو ما يمكن فعله بزيادة أو إنقاص الاحتياطات المصرفية. فإذا كان الاقتصاد يمر بحالة من الضعف وانخفض معدل التضخم، يقوم مجلس الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة، مما يشجع على الاقتراض ويحفز الإنفاق الخاص ويؤدي في النهاية، إذا سار كل شيء على ما يرام، إلى تعافي الاقتصاد. أما إذا كان الاقتصاد في وضع قوي وكان التضخم يمثل تهديدا، فإن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يقوم برفع أسعار الفائدة، مما يقلل من الحافز للاقتراض والإنفاق، ويدخل الاقتصاد في مرحلة من الهدوء.

وفي الوقت الحالي، يرى مجلس الاحتياطي الفيدرالي أنه أمام فترة ضعف اقتصادي وتراجع في معدلات التضخم، وهو موقف يفترض عادة أن يقوم فيه بخفض أسعار الفائدة، لكن المشكلة هي أن أسعار الفائدة لا يمكن خفضها أكثر من ذلك. فحينما بدأت حالة الركود في عام 2007، شرع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2008، حينما وصلت أسعار الفائدة تلك إلى القاع قريبا من الصفر، وهو المستوى الذي ما زالت عليه حتى يومنا هذا. وقد كان هذا هو أقصى ما يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي عمله، لأن أسعار الفائدة (مع تنحية بعض التوقعات الفنية الضيقة جانبا) لا يمكن أن تنخفض أكثر من ذلك - فالمستثمرون لن يقوموا بشراء سندات إذا كان بإمكانهم تحقيق عائد أعلى ببساطة عن طريق الاحتفاظ بحفنة من النقود داخل خزانة. وبعبارة أخرى، فقد وصل مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى ما يعرف في قاموس الاقتصاد بحد الصفر الأدنى (أو، بعبارة ثالثة، أصبح عالقا في مأزق سيولة)، ووصلت الأداة التي يستخدمها عادة في محاربة حالات الركود إلى أقصى ما يمكنها تقديمه من فائدة.

لكن ذلك لا يعني أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي ليست لديه أي خيارات، فهو على أي حال يضم عددا من كبار الخبراء الاقتصاديين، وعلى رأسهم أستاذ بارز في جامعة برينستون بحجم برنانكي. ويعتبر برنانكي، كما ذكرنا سابقا، من خبراء الاقتصاد الذين تنبهوا، منذ تسعينات القرن الماضي، إلى المتاعب التي تعاني منها اليابان - وهي وجود فقاعة عقارية ضخمة انفجرت مخلفة وراءها إرثا ضخما من مديونية القطاع الخاص، وبنك مركزي وصل إلى حد الصفر الأدنى.

لكن المصاعب التي تواجه الولايات المتحدة اليوم ليست متطابقة مع تلك التي واجهت اليابان. فمن ناحية، لم يكن معدل التضخم في اليابان متدنيا، بل إن اليابان كانت في نهاية التسعينات تعاني بالفعل من حالة انكماش مزمنة، ومن ناحية أخرى، فإن أزمة اليابان المالية لم تكن قط بنفس السوء الذي شهدته الولايات المتحدة - فالبطالة، على وجه الخصوص، لم تتفاقم إلى تلك الدرجة التي يعاني منها المجتمع الأميركي. ولكن مع ذلك، تظل اليابان مثالا لكيفية وقوع اقتصاد حديث ومتقدم في مأزق اقتصادي ظاهري.

وصرح برنانكي في ورقة بحثية شديدة اللهجة عام 2000 بعنوان «السياسة النقدية اليابانية: حالة من العجز الذاتي»، قائلا: «يستطيع المصرف المركزي الياباني، الذي هو أبعد ما يكون عن العجز، أن يحقق الكثير من الإنجازات إذا كان عازما على التخلي عن حذره المبالغ فيه ورده الدفاعي على النقد». واقترح عددا من الإجراءات التي يمكن للمصرف أن يتخذها. كذلك دعا صناع السياسة اليابانية إلى الاقتداء بروزفلت والقيام بكل ما يستدعيه الأمر. وقال: «لا تعاني اليابان من كساد إطلاقا، لكن يعمل اقتصادها بقدر أقل من كفاءته منذ نحو عقد، كذلك لا يلوح أي تعاف في الأفق. هناك خيارات سياسية من شأنها الحد من تلك الخسائر. لماذا لا يحدث أي شيء؟ تبدو السياسة النقدية جامدة بفعل ذاتي إلى حد كبير على الأقل بالنسبة إلى أي متابع من خارج اليابان. الأكثر إثارة للدهشة هو عدم رغبة الهيئات النقدية بشكل واضح في التجربة ومحاولة القيام بأي شيء غير مضمون النتائج. ربما حان الآن وقت اتخاذ خطوات حاسمة في اليابان مثل تلك التي اتخذها روزفلت».

وقدم برنانكي بعض الاقتراحات التي تصلح لأن تكون نصيحة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي اليوم. من أحد الخيارات المطروحة القيام بدور أكبر في أسواق المال. ربما تصل أسعار الفائدة على القروض قصيرة الأجل إلى الصفر، وهو أدنى مستوى ممكن، لكن لم تصل أسعار الفائدة على القروض طويلة الأجل إلى الصفر بعد. لذا يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي عادة ما يشتري سندات خزانة أميركية قصيرة الأجل فقط، أن يتوسع في عملياته بحيث تشمل شراء سندات خزانة طويلة الأجل من السندات المدعومة بالرهن العقاري، وما إلى ذلك في محاولة لخفض أسعار الفائدة على هذه الأصول. إن هذه هي الاستراتيجية التي باتت معروفة باسم سياسة التحفيز الكمي. ويعتقد المستثمرون حاليا أن الاقتصاد الأميركي سوف يتعافى في النهاية بقدر يسمح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بالشروع في رفع أسعار الفائدة. ويمكن لمثل تلك التوقعات بشأن المستقبل بدورها أن تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد في الوقت الحالي، حيث يمكن أن تلعب التوقعات بوجه خاص بشأن الموعد الذي سيبدأ فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة، دورا مؤثرا على التوقعات المستقبلية الخاصة بالتضخم. ويفترض المستثمرون في الوقت الحالي أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سوف يرفع أسعار الفائدة إلى مستوى يسمح بالحيلولة دون زيادة التضخم إلى أكثر من 2 في المائة. إذا اتجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي نحو رفع المستوى المطلوب إبقاء التضخم عنده، وإذا اعتقد المستثمرون في الهدف الجديد، سيرتفع مستوى التضخم المتوقع على المدى المتوسط، أي نحو عشر سنوات. ويرى الكثير من خبراء الاقتصاد بداية من كبير خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي إلى أحد كبار المستشارين الاقتصاديين، أن ارتفاع التضخم المتوقع سيساعد الاقتصاد على تجاوز مستوى أسعار الفائدة المقيد عند الصفر لأنه سيساعد في إقناع المستثمرين ورجال الأعمال على حد سواء بأن الاحتفاظ بالمال قرار خاطئ. ودعم برنانكي الفكرة في ورقته البحثية المشار إليها آنفا، حيث اقترح أن يعلن المصرف المركزي الياباني عن الإبقاء على مستوى التضخم عند 3 إلى 4 على مدى عدد من السنوات. أي من تلك الخطوات اتخذها مجلس الاحتياطي الفيدرالي مؤخرا؟.. لقد اشترى سندات خزانة أميركية طويلة الأجل وسندات من هيئات إسكان مدعومة من الحكومة بقيمة تتجاوز تريليوني دولار. ويبدو هذا كثيرا، لكنه أقل من الحد اللازم لتحقيق التعافي الاقتصادي سريعا بحسب أكثر المحللين. لقد حاول مجلس الاحتياطي الفيدرالي التأثير على توقعات السوق بشأن السياسة المستقبلية، لكن فقط على المدى القريب، حيث أعلن أنه لا يتوقع رفع أسعار الفائدة على القروض قصيرة الأجل حتى نهاية عام 2014.

واستبعد برنانكي سياسات أكثر طموحا، فقد رفض عام 2010 على سبيل المثال فكرة تحديد مستوى أعلى لإبقاء التضخم عنده، مشيرا إلى أن هذا سوف يقوض الثقة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي ومصداقيته التي صنعها بشق الأنفس.

بإيجاز يمكن القول إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقيادة برنانكي أكثر سلبية مما تحثنا عليه كتابات برنانكي، أستاذ الاقتصاد.

*

 
عودة
أعلى