- المشاركات
- 19,998
- الإقامة
- تركيا
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد واله وسلم
رقة القلب وقسوته
الحمد لله علام الغيوب. الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب.
إنَّ رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة
من الرحمن تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزًا من الغي
والعصيان.
ما رق قلب لله -عز وجل- إلا كان صاحبه سابقًا إلى الخيرات
مشمرًا في الطاعات والمرضاة.
ما رق قلب لله -عز وجل- وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون
على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكّر إلا تذكر، ولا بُصّر إلا تبصر.
ما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئنًا بذكر الله يلهج لسانه
بشكره والثناء عليه -سبحانه وتعالى-. وما رق قلب لله -عز
وجل- إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله -عز وجل.
فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطش الله -تبارك وتعالى.
ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفًا وخشية للرحمن
-سبحانه وتعالى-. ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص
ذلك القلب من خشية المليك -سبحانه وتعالى-.
إنَّها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا
أعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله -تبارك وتعالى-.
وقد أخبر الله -عز وجل- أنَّه ما من قلب يُحرم هذه النعمة
إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].
ويل وعذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله، ونعيم ورحمة
وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله -تبارك وتعالى-.
ولذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر. كيف السبيل
لكي يكون قلبي رقيقا؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟ فأكون
حبيبا لله -عز وجل-، وليًا من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة
والسرور إلا في محبته وطاعته -سبحانه وتعالى-؛ لأنَّه يعلم أنَّه
لن يُحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئًا كثيرًا.
ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون
فيها إلى من يرقق قلوبهم.
فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب. تارة تقبل على الخير، وإذا
بها أرق ما تكون لله -عز وجل- وداعي الله . لو سُئلت أن تنفق
أموالها جميعًا لمحبة الله لبذلت، ولو سئلت أن تبذل النفس في
سبيل الله لضّحت.
إنها لحظات ينفح فيها الله -عز وجل- تلك القلوب برحمته.
وهناك لحظات يتمعر فيها المؤمن لله -تبارك وتعالى-، لحظات
القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه ويتألم
فيها فؤاده حتى يكون أقسى من الحجر.
وللرقة أسباب، وللقسوة أسباب:
الله -تبارك وتعالى- تكرم وتفضل بالإشارة إلى بيانها في الكتاب.
فما رقَّ القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله -تبارك وتعالى-
، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقًا لله -عز
وجل-، وكان وقّافا عند حدود الله. لا تأتيه الآية من كتاب الله
ويأتيه حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال:
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير
[البقرة:285].
فما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى وتعرف على هذا الرب
الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته
إلى الخير سباق.
فأعظم سبب تلين به القلوب لله -عز وجل- وتنكسر من هيبته
المعرفة بالله -تبارك وتعالى-، أن يعرف العبد ربه. أن يعرفه،
وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب.
يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم. وتذكره النعمة
والنقمة بذلك الحليم الكريم. ويذكره الخير والشر بمن له أمر
الخير والشر سبحانه وتعالى. فمن عرف الله رق قلبه من خشية
الله تبارك وتعالى.
والعكس بالعكس فما وجدت قلبًا قاسيًا إلا وجدت صاحبه أجهل
العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله
وعذاب اللهوأجهلهم بنعيم الله -عز وجل- ورحمة الله.
حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله،
وأيئس ما يكون من روح الله لمكان الجهل بالله.
فلما جهل الله جرأ على حدوده، وجرأ على محارمه، ولم يعرف
إلا ليلاً ونهارًا وفسوقًا وفجورًا، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا
الذي يعده هدفًا في وجوده ومستقبله.
لذا فإن المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كل ما
وجدت الإنسان يديم العبرة، يديم التفكر في ملكوت الله، كلما
وجدت قلبه فيه رقة، وكلما وجدت قلبه في خشوع وانكسار إلى
الله تبارك وتعالى.
السبب الثاني:
الذي يكسر القلوب ويرققها، ويعين العبد على رقة قلبه من خشية
الله -عز وجل- النظر في آيات هذا الكتاب، النظر في هذا السبيل
المفضي إلى السداد والصواب. النظر في كتاب وصفه الله بقوله:
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].
ما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكرًا
متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع والنفس تتوهج إيمانًا
من أعماقها تريد المسير إلى الله -تبارك وتعالى-، وإذا بأرض ذلك
القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله
-عز وجل- وطاعته.
ما قرأ عبد القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها
والتأمل فيها رقيقًا قد اقشعر قلبه واقشعر جلده من خشية الله -تبارك وتعالى-:
كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
هذا القرآن موعظة رب العالمين وكلام إله الأولين والآخرين،
ما قرأه عبد إلا تيسرت له الهداية عند قراءته،
ولذلك قال الله في كتابه:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[القمر:17].
هل هناك من يريد الذكرى؟
هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية؟
… هذا كتابنا.
ولذلك ما أدمن قلب، ولا أدمن عبد على تلاوة القرآن، وجعل
القرآن معه يتلوه آناء الليل وأطراف النهار إلا رقَّ قلبه من
خشية الله -تبارك وتعالى-.
السبب الثالث: تذكر الآخرة.
أن يتذكر العبد أنَّه إلى الله صائر، أن يتذكر أنَّ لكل بداية نهاية،
وأنَّه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة
أو النار. فإذا تذكر الإنسان أنَّ الحياة زائلة وأنَّ المتاع فان، وأنَّها
غرور حائل دعاه -والله- ذلك إلى أن يحتقر الدنيا، ويقبل على
ربها إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه.
ومن نظر إلى القبور ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان
قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور.
ولذلك لن تجد إنسانًا يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل
والتدبر، إذ يرى فيها الأباء والأمهات والإخوان والأخوات،
والأصحاب والأحباب.
يرى منازلهم ويتذكر أنَّه قريب سيكون بينهم وأنَّهم جيران بعضهم
لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة. وأنَّه قد يتدانى القبران
وبينهما كما بين السماء والأرض نعيمًا وجحيمًا.
ما تذكر عبد هذه المنازل التي ندب النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى ذكرها إلا رق قلبه من خشية الله -تبارك وتعالى-.
ولا وقف على شفير قبر فراءه محفورًا فهيأ نفسه أن لو كان
صاحب ذلك القبر، ولا وقف على شفير قبر فرى صاحبه يدلى فيه
فسأل نفسه إلى ماذا يغلق ؟ وعلى من يُغلق ؟ وعلى أي شيء
يُغلق؟ أيغلق على مطيع أم عاصي ؟ أيغلق على جحيم أم على
نعيم؟ فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم وهو الحكم العدل الذي
يفصل بينهم.
ما نظر عبد هذه النظرات إلا اهتز القلب من خشية الله وانفطر
هيبة لله -تبارك وتعالى-، وأقبل على الله إلى الله -تبارك وتعالى-
إقبال صدق وإنابة وإخبات.
أعظم داء يصيب القلب داء القسوة. ومن أعظم أسباب القسوة:
بعد الجهل بالله -تبارك وتعالى- الركون إلى الدنيا والغرور
بأهلها، وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإنَّ هذا من أعظم
الأسباب التي تقسي القلوب. إذا اشتغل العبد بالأخذ والبيع،
واشتغل أيضًا بهذه الفتن الزائلة والمحن الحائلة، سرعان ما
يقسو قلبه لأنه بعيد عن من يذكره بالله -تبارك وتعالى-.
فلذلك من أعظم الأسباب التي تستوجب قسوة القلب
الركون إلى الدنيا، وتجد أهل القسوة غالبًا عندهم عناية بالدنيا،
يضحون بكل شيء، يضحون بأوقاتهم. يضحون بالصلوات
ويقدمون على ارتكاب الفواحش والموبقات.
ولكن لو عرف العبد حقيقة هذه الدنيا
لأصبح وأمسى ولسانه يقول: ربي نجني من فتنة هذه الدنيا، فإن
في الدنيا شُعب ما مال القلب إلى واحد منها إلا استهواه لما بعده
ثم إلى ما بعده حتى يبعد عن الله -عز وجل-، وعنده تسقط مكانته
عند الله ولا يبالي الله به يهلك.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً لها مكرمًا،
فعظّم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال
والتعظيم والتكريم -سبحانه وتعالى-، تكون عاقبته من أسوء
العواقب.
ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفساق، ومعاشرة
من لا خير في معاشرته. ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في
صحبتها إلا قسى قلبه من ذكر الله -تبارك وتعالى-، ولا طلب
الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على
مجالسهم إلا جاءته الرقة شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء
قلبه فتخرجه عبدًا صالحًا مفلحًا قد جعل الآخرة نصب عينيه.
لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن
يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في
هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنَّا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تهب لنا
قلوبًا لينة تخشع لذكرك وشكرك.
اللهم إنَّا نسألك قلوبًا تطمئن لذكرك. اللهم إنَّا نسألك إيمانًا كاملاً،
ويقينًا صادقًا، وقلبًا خاشعًا، وعلمًا نافعًا، وعملاً صالحاً مقبولاً
عندك، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم صلي على محمد واله وسلم
رقة القلب وقسوته
الحمد لله علام الغيوب. الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب.
إنَّ رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة
من الرحمن تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزًا من الغي
والعصيان.
ما رق قلب لله -عز وجل- إلا كان صاحبه سابقًا إلى الخيرات
مشمرًا في الطاعات والمرضاة.
ما رق قلب لله -عز وجل- وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون
على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكّر إلا تذكر، ولا بُصّر إلا تبصر.
ما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئنًا بذكر الله يلهج لسانه
بشكره والثناء عليه -سبحانه وتعالى-. وما رق قلب لله -عز
وجل- إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله -عز وجل.
فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطش الله -تبارك وتعالى.
ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفًا وخشية للرحمن
-سبحانه وتعالى-. ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص
ذلك القلب من خشية المليك -سبحانه وتعالى-.
إنَّها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا
أعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله -تبارك وتعالى-.
وقد أخبر الله -عز وجل- أنَّه ما من قلب يُحرم هذه النعمة
إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].
ويل وعذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله، ونعيم ورحمة
وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله -تبارك وتعالى-.
ولذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر. كيف السبيل
لكي يكون قلبي رقيقا؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟ فأكون
حبيبا لله -عز وجل-، وليًا من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة
والسرور إلا في محبته وطاعته -سبحانه وتعالى-؛ لأنَّه يعلم أنَّه
لن يُحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئًا كثيرًا.
ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون
فيها إلى من يرقق قلوبهم.
فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب. تارة تقبل على الخير، وإذا
بها أرق ما تكون لله -عز وجل- وداعي الله . لو سُئلت أن تنفق
أموالها جميعًا لمحبة الله لبذلت، ولو سئلت أن تبذل النفس في
سبيل الله لضّحت.
إنها لحظات ينفح فيها الله -عز وجل- تلك القلوب برحمته.
وهناك لحظات يتمعر فيها المؤمن لله -تبارك وتعالى-، لحظات
القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه ويتألم
فيها فؤاده حتى يكون أقسى من الحجر.
وللرقة أسباب، وللقسوة أسباب:
الله -تبارك وتعالى- تكرم وتفضل بالإشارة إلى بيانها في الكتاب.
فما رقَّ القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله -تبارك وتعالى-
، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقًا لله -عز
وجل-، وكان وقّافا عند حدود الله. لا تأتيه الآية من كتاب الله
ويأتيه حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال:
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير
[البقرة:285].
فما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى وتعرف على هذا الرب
الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته
إلى الخير سباق.
فأعظم سبب تلين به القلوب لله -عز وجل- وتنكسر من هيبته
المعرفة بالله -تبارك وتعالى-، أن يعرف العبد ربه. أن يعرفه،
وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب.
يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم. وتذكره النعمة
والنقمة بذلك الحليم الكريم. ويذكره الخير والشر بمن له أمر
الخير والشر سبحانه وتعالى. فمن عرف الله رق قلبه من خشية
الله تبارك وتعالى.
والعكس بالعكس فما وجدت قلبًا قاسيًا إلا وجدت صاحبه أجهل
العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله
وعذاب اللهوأجهلهم بنعيم الله -عز وجل- ورحمة الله.
حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله،
وأيئس ما يكون من روح الله لمكان الجهل بالله.
فلما جهل الله جرأ على حدوده، وجرأ على محارمه، ولم يعرف
إلا ليلاً ونهارًا وفسوقًا وفجورًا، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا
الذي يعده هدفًا في وجوده ومستقبله.
لذا فإن المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كل ما
وجدت الإنسان يديم العبرة، يديم التفكر في ملكوت الله، كلما
وجدت قلبه فيه رقة، وكلما وجدت قلبه في خشوع وانكسار إلى
الله تبارك وتعالى.
السبب الثاني:
الذي يكسر القلوب ويرققها، ويعين العبد على رقة قلبه من خشية
الله -عز وجل- النظر في آيات هذا الكتاب، النظر في هذا السبيل
المفضي إلى السداد والصواب. النظر في كتاب وصفه الله بقوله:
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].
ما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكرًا
متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع والنفس تتوهج إيمانًا
من أعماقها تريد المسير إلى الله -تبارك وتعالى-، وإذا بأرض ذلك
القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله
-عز وجل- وطاعته.
ما قرأ عبد القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها
والتأمل فيها رقيقًا قد اقشعر قلبه واقشعر جلده من خشية الله -تبارك وتعالى-:
كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
هذا القرآن موعظة رب العالمين وكلام إله الأولين والآخرين،
ما قرأه عبد إلا تيسرت له الهداية عند قراءته،
ولذلك قال الله في كتابه:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[القمر:17].
هل هناك من يريد الذكرى؟
هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية؟
… هذا كتابنا.
ولذلك ما أدمن قلب، ولا أدمن عبد على تلاوة القرآن، وجعل
القرآن معه يتلوه آناء الليل وأطراف النهار إلا رقَّ قلبه من
خشية الله -تبارك وتعالى-.
السبب الثالث: تذكر الآخرة.
أن يتذكر العبد أنَّه إلى الله صائر، أن يتذكر أنَّ لكل بداية نهاية،
وأنَّه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة
أو النار. فإذا تذكر الإنسان أنَّ الحياة زائلة وأنَّ المتاع فان، وأنَّها
غرور حائل دعاه -والله- ذلك إلى أن يحتقر الدنيا، ويقبل على
ربها إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه.
ومن نظر إلى القبور ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان
قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور.
ولذلك لن تجد إنسانًا يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل
والتدبر، إذ يرى فيها الأباء والأمهات والإخوان والأخوات،
والأصحاب والأحباب.
يرى منازلهم ويتذكر أنَّه قريب سيكون بينهم وأنَّهم جيران بعضهم
لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة. وأنَّه قد يتدانى القبران
وبينهما كما بين السماء والأرض نعيمًا وجحيمًا.
ما تذكر عبد هذه المنازل التي ندب النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى ذكرها إلا رق قلبه من خشية الله -تبارك وتعالى-.
ولا وقف على شفير قبر فراءه محفورًا فهيأ نفسه أن لو كان
صاحب ذلك القبر، ولا وقف على شفير قبر فرى صاحبه يدلى فيه
فسأل نفسه إلى ماذا يغلق ؟ وعلى من يُغلق ؟ وعلى أي شيء
يُغلق؟ أيغلق على مطيع أم عاصي ؟ أيغلق على جحيم أم على
نعيم؟ فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم وهو الحكم العدل الذي
يفصل بينهم.
ما نظر عبد هذه النظرات إلا اهتز القلب من خشية الله وانفطر
هيبة لله -تبارك وتعالى-، وأقبل على الله إلى الله -تبارك وتعالى-
إقبال صدق وإنابة وإخبات.
أعظم داء يصيب القلب داء القسوة. ومن أعظم أسباب القسوة:
بعد الجهل بالله -تبارك وتعالى- الركون إلى الدنيا والغرور
بأهلها، وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإنَّ هذا من أعظم
الأسباب التي تقسي القلوب. إذا اشتغل العبد بالأخذ والبيع،
واشتغل أيضًا بهذه الفتن الزائلة والمحن الحائلة، سرعان ما
يقسو قلبه لأنه بعيد عن من يذكره بالله -تبارك وتعالى-.
فلذلك من أعظم الأسباب التي تستوجب قسوة القلب
الركون إلى الدنيا، وتجد أهل القسوة غالبًا عندهم عناية بالدنيا،
يضحون بكل شيء، يضحون بأوقاتهم. يضحون بالصلوات
ويقدمون على ارتكاب الفواحش والموبقات.
ولكن لو عرف العبد حقيقة هذه الدنيا
لأصبح وأمسى ولسانه يقول: ربي نجني من فتنة هذه الدنيا، فإن
في الدنيا شُعب ما مال القلب إلى واحد منها إلا استهواه لما بعده
ثم إلى ما بعده حتى يبعد عن الله -عز وجل-، وعنده تسقط مكانته
عند الله ولا يبالي الله به يهلك.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً لها مكرمًا،
فعظّم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال
والتعظيم والتكريم -سبحانه وتعالى-، تكون عاقبته من أسوء
العواقب.
ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفساق، ومعاشرة
من لا خير في معاشرته. ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في
صحبتها إلا قسى قلبه من ذكر الله -تبارك وتعالى-، ولا طلب
الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على
مجالسهم إلا جاءته الرقة شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء
قلبه فتخرجه عبدًا صالحًا مفلحًا قد جعل الآخرة نصب عينيه.
لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن
يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في
هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنَّا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تهب لنا
قلوبًا لينة تخشع لذكرك وشكرك.
اللهم إنَّا نسألك قلوبًا تطمئن لذكرك. اللهم إنَّا نسألك إيمانًا كاملاً،
ويقينًا صادقًا، وقلبًا خاشعًا، وعلمًا نافعًا، وعملاً صالحاً مقبولاً
عندك، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.