إفتح حسابك مع HFM
إفتح حسابك مع شركة XM  برعاية عرب اف اكس

سوريون يبحثون عن جثث ذويهم لدفنها بعد 50 عاماً من وحشية عائلة الأسد

mohammad-k

مسؤول العملاء في تركيا
طاقم الإدارة
المشاركات
20,016
الإقامة
تركيا
image_2024-12-13_155821999.png

على جدار خارج مستشفى المجتهد في دمشق، تُعلق صور لوجوه رجال متوفين.
يتفحص حشد متغير باستمرار هذه الصور، يحدقون وشمس الشتاء في أعينهم في وجوه تبدو وكأنها ماتت بعد ألم شديد. أنوف وأفواه ومحاجر أعين ملتوية ومتأذية ومهشمة.
جثامينهم موجودة في المستشفى، وقد أُحضرت إلى وسط المدينة من مستشفى آخر في ضواحي دمشق. يقول الأطباء إن المتوفين كانوا جميعاً سجناء.
يتدفق سيل من الزوجات والإخوة والأخوات والآباء إلى المستشفى بحثاً عن معلومات على أمل في العثور على جثة لدفنها.

يقتربون قدر الإمكان من الصور، يبحثون بعناية عن أي شيء في الوجوه يمكّنهم من التعرف عليها. يصور بعضهم كل صورة ليأخذها إلى المنزل سعياً وراء سماع رأي ثانٍ بشأنها.

إنها مهمة قاسية. ويبدو أن بعض الرجال قد ماتوا منذ أسابيع بالنظر إلى طريقة تحلل الوجوه.
من جدار الصور، يتوجه الأقارب إلى المشرحة.

استقبل مستشفى المجتهد 35 جثة، وهو عدد كبير تسبب في امتلاء المشرحة وتكدّس الغرفة المخصصة للجثث الزائدة عن القدرة الاستيعابية للمكان بعربات محملة بأكياس الجثث.
داخل المشرحة، كانت الجثث موضوعة على أرضية خرسانية مكشوفة تحت صف من الصواني المبرَّدة.
أكياس الجثث مفتوحة لأن العائلات كانوا يلقون نظرة على ما في داخلها وكذلك أبواب الثلاجات.
كانت بعض الجثث ملفوفة في أكفان غير محكمة قد انزلقت لتكشف عن وجوه أو وشوم أو ندوب يمكن أن تحدد هوية الميت.
كان أحد الميتين يرتدي حفّاظة، وآخر على صدره شريط لاصق مكتوب عليه رقم. حتى بعد قتله، حرمه سجّانوه، من كرامته بعدم حمل اسمه.
كانت جميع الجثث هزيلة. قال الأطباء الذين فحصوها إنها تحمل علامات ضرب، بما في ذلك كدمات شديدة وكسور متعددة.
كانت رغد عطار، طبيبة أسنان شرعية، تفحص سجلات الأسنان التي تركتها العائلات لمحاولة تحديد هوية الجثث. وكانت تتحدث بهدوء عن كيفية تجميع الأدلة التي يمكن استخدامها لاختبارات الحمض النووي، ثم انهارت عندما سألتها عن كيفية تعاملها مع الأمر.
قالت: "دائمًا ما تسمع أن السجناء مفقودون منذ فترة طويلة، لكن رؤيتهم أمر مؤلم للغاية".
أضافت: "جئت إلى هنا بالأمس. كان الأمر صعباً جداً. نأمل أن يكون المستقبل أفضل، لكن هذا صعب جداً. أشعر بالحزن الشديد من أجل هذه العائلات. أشعر بالأسف تجاههم".
وانهمرت الدموع على وجهها عندما سألتها عمّا إذا كان يمكن لسوريا أن تتعافى من 50 عاماً من حكم عائلة الأسد.
قالت: "لا أدري، لكني آمل أن يتحقق ذلك. أشعر بأننا سوف نعيش أيامًا أفضل، لكني أريد أن أطلب من جميع الدول مساعدتنا."
"أي شيء لمساعدتنا. أي شيء، أي شيء..."
تتوافد العائلات والأصدقاء إلى الداخل، وينتقلون بصمت من جثة إلى أخرى على أمل العثور على نهاية للألم الذي بدأ عندما تم القبض على أحبائهم عند أحد حواجز النظام أو خلال مداهمة لمنازلهم، ليُلقى بهم في سجون الأسد.
قالت امرأة تدعى نور، ترتدي قناعاً على فمها وأنفها، إن شقيقها اعتقل في 2012 عندما كان عمره 28 سنة.
كل ما سمعوه عنه منذ ذلك الحين كان حين ذُكر في منشور على فيسبوك أنه كان في سجن صيدنايا سيء السمعة، حيث ترك النظام السجناء ليتعفنوا لعقود.
وقالت نور: "الوضع مؤلم. في نفس الوقت، لدينا أمل. حتى لو وجدناه بين الجثث. أي شيء طالما أنه ليس مفقوداً. نريد أن نجد شيئاً منه. نريد أن نعرف ماذا حدث له. نحتاج إلى نهاية لكل هذا".

  • زوجان أخبرا طبيباً أن ابنهما تم اقتياده لرفضه فتح جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به للتفتيش.

كان ذلك قبل 12 عاماً. لم يُسمع عنه شيء منذ ذلك الحين.
خلال السنوات التي قمت فيها بالتغطية الصحفية من سوريا، سمعت العديد من القصص المشابهة.
على هاتفي، لدي صورة لوجه امرأة التقيت بها في يوليو / تموز 2018 في مخيم للنازحين، في أعقاب استسلام الثوار بمعقلهم في دوما بضواحي دمشق.
اختفى ابنها، وهو يافع، بعد أن اعتقل عند نقطة تفتيش من قبل أجهزة الاستخبارات.
أكثر من 50 عاماً من حكم عائلة الأسد تعني 50 عاماً من الاختفاءات، والسجن، والقتل.
تعني قسوة بلا رحمة على السجناء، وعلى العائلات التي تحاول العثور عليهم، وعلى الشعب السوري الذي كان خارج دائرة الثقة لعائلة الأسد.
على جدار الصور، وفي المشرحة بمستشفى المجتهد، أراد الناس معرفة ما حدث. أرادوا بعض المعلومات، وإذا كانوا محظوظين جداً، جثة.
كانوا بحاجة إلى تصفية الحساب، وكثير منهم أراد الانتقام. الأهم من ذلك كله، كانوا يحلمون ويأملون في حياة بلا خوف.

قالت امرأة في المستشفى إنها رغم علمها بأن بشار الأسد في سوريا، فقد زرع الخوف بداخلها لدرجة أنها لا تزال تخشى مما قد يفعله بها.
ربما يجب على كل سوري يشعر مثلها أن يذهب إلى الجرف المطل على دمشق حيث أمر حافظ الأسد، والد بشار، ببناء قصر رئاسي، ليتأكدوا من أن المبنى الضخم المصنوع من الرخام صار فارغاً.
جمع سائقنا أدلته الخاصة بالفيديو. أخرج هاتفه وبدأ في التصوير عندما دخلت السيارة إلى الممر الاحتفالي الطويل للقصر.
خلال سنوات حكم هذا النظام، كان السوريون يحرصون على ألا عدم الإبطاء بسياراتهم بالقرب من بوابات القصر خوفاً من أن الاعتقال والذهاب إلى السجن لما لظن السلطات أنهم يشكلون تهديداً للرئيس.
تتوقف الهواتف المحمولة عن العمل عند الاقتراب من المجال الأمني للقصر.
القصر يطل على دمشق، ويمكن رؤيته من معظم أنحاء المدينة. ليخبر الناس أن عائلة الأسد كانت دائماً حاضرة ودائماً تراقب عبر شبكة من أجهزة المخابرات التابعة للنظام.
صُمم هذا النظام من قبل حافظ، أول رئيس من عائلة الأسد. كانت شرطته السرية تتجسس على بعضها البعض وتتجسس على الناس.
أخبرني ذات مرة رجل أعمال أعرفه في حمص بأن أحد فروع المخابرات تواصل معه عندما كان يبني فندقاً، وطلبوا منه تصاميم الفندق في وقت مبكر من المشروع حتى يتمكنوا من دمج جميع أجهزة التنصت التي يحتاجونها في الغرف. وأوضحوا له أن ذلك أسهل من تركيبها بعد الانتهاء من البناء.



لم تعش عائلة الأسد أبداً في القصر. فقد خُصص للمناسبات الرسمية، وكان هناك في الطوابق العلوية بعض المكاتب للأعمال اليومية.
ذهبت إلى هناك كثيراً في عام 2015، للتفاوض على شروط لإجراء مقابلة مع بشار الأسد. كنت قد قابلته مرتين قبل سنوات من اندلاع الثورة ضده في عام 2011.
وفي ذلك الوقت، كان لا يزال يغري السوريين بالحديث عن الإصلاح، وهو ما تبين أنه أكاذيب.
كما كان يحمل قادة الغرب على الاعتقاد بأنه قد يفض شراكته مع إيران، وإذا لم ينضم إلى المعسكر الغربي تماماً، فيمكن لهم إقناعه بأن من مصلحته عدم معارضة هذا المعسكر.
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات لا تنفك تحاول إقناعه بالتخلي عن إيران في الأسابيع التي سبقت اضطراره للفرار إلى موسكو.
الآن بعد أن رحل الأسد، كانت وجهتي في القصر هي فيلا فاخرة داخل حرمه. أردت الذهاب إلى هناك لأنها كانت المكان الذي التقيت فيه بالأسد لإجراء المقابلات.
الفيلا، التي كانت أكثر فخامة من الغرف الرسمية في القصر، بُنيت، كما قيل لي، كمكان إقامة خاصة لعائلة الأسد.
أرضياتها وطاولاتها من الرخام، والخشب من الجوز المصقول، والثريات من الكريستال.
لم تعجب الفيلا عائلة الأسد، لذا كانت تُستخدم بيتاً للضيافة ومكاناً لإجراء المقابلات النادرة مع بشار.
أستطيع أن أفهم لماذا كانوا يفضلون مكان إقامتهم الآخر، وهو قصر جميل من الحقبة الاستعمارية الفرنسية يقع خلف حاجز من أشجار الصنوبر. يبدو وكأنه ملاذ أرستقراطي على شاطئ الريفييرا.
حتى قبل أقل من أسبوعين، كان بإمكانك في سوق دمشق القديمة شراء قطعة مغناطيسية تُعلق على الثلاجة لصورة بشار الأسد وإخوته وهم أطفال، يركبون الدراجات في الحديقة تحت أنظار والديهم.
ومن المرجح أن هذه الصورة التقطت في مروج هذه الفيلا النظيفة الواسعة.
تعاملت عائلة الأسد عبر الأجيال مع سوريا باعتبارها ملكاً خاصاً لها، إذ أثْرَت نفسها واشترت ثقة أتباعها على حساب السوريين الذين يمكن أن يُزج بهم في السجن أو يُقتلوا إذا خرجوا عن الخط، أو حتى إذا لم يفعلوا ذلك.
مقاتل يدعى أحمد، حمل السلاح ضد النظام في عام 2011، ونجا في أعقاب هزيمة مسلحي المعارضة في دمشق، ثم قاتل في طريق عودته من إدلب مع مسلحي هيئة تحرير الشام، كان يتمعن في نمط الحياة الذي عاشته عائلة الأسد، برفقة إخوته الثلاثة، وجميعهم ثوار مقاتلون.
قال أحمد بهدوء: "كان الناس يعيشون في الجحيم بينما هو في قصره".
وأضاف: "لم يكن يهتم بما كان يمر به الناس. جعلهم يعيشون في خوف وجوع وإذلال. حتى بعد دخولنا دمشق، كان الناس يهمسون لنا فقط، لأنهم كانوا لا يزالون خائفين".
وجدت بيت الضيافة الرخامي، وسرت عبر المكتبة المكسوة بألواح الجوز وأرضيات الرخام حيث قابلت الأسد عندما كان النظام يقاتل من أجل البقاء في فبراير / شباط 2015.
كان أبرز ما في المقابلة هو إنكاره المتكرر بأن قواته كانت تقتل المدنيين. حتى أنه حاول المزاح بشأن ذلك.
الآن، يقف مقاتلو المعارضة عند الباب ويسيرون في دوريات بالممرات. بعض الكتب سقطت من رفوف المكتبة، لكن المبنى كان سليماً.
سرت نحو غرفة انتظار حيث كان الأسد يمنح 10 أو 15 دقيقة من الحديث الخاص قبل المقابلة.
دائماً ما كان مهذباً، بل ومهتماً، يسأل عن عائلتي، وعن الرحلة إلى سوريا.
جعلت سلوكيات بشار الأسد المحرجة بعض المراقبين الغربيين يعتقدون أنه شخص ضعيف قد ينحني للضغط.
في الخفاء، وجدته واثقاً بنفسه إلى حد الغطرسة، مقتنعاً بأنه العنكبوت العارف بكل شيء في قلب شبكة الشرق الأوسط، يتتبع نوايا أعدائه الخبيثة ومستعداً لتوجيه الضربة.
كان والده حافظ الأسد ركيزة أساسية في الشرق الأوسط. كان رجلاً لا يرحم، بنى دولة بوليسية استمرت لأكثر من خمسين عاماً، مستخدماً الخوف والمكر والاستعداد لتدمير أي تهديد، في سبيل فرض الاستقرار في سوريا، البلد الذي كان مضرب المثل في التداول العنيف للسلطة، حتى استولى على السلطة المطلقة في عام 1970.
كان لدي انطباع أن بشار أراد أن يكون ابن أبيه، أو ربما يسعى إلى التفوق عليه.
قتل بشار من السوريين أكثر من حافظ، ودمّر البلاد في محاولة لإنقاذ النظام.
لكن عناد بشار ورفضه للإصلاح أو التفاوض واستعداده للقتل، كلها أمور حسمت مصيره وحكمت عليه بخوض رحلة أخيرة مرعبة إلى المطار مع زوجته وأطفاله في رحيلهم الأخير من سوريا إلى موسكو.

في حي متواضع ومزدحم وغير بعيد عن جمال ورونق المدينة القديمة في دمشق، كنت في الصف الأمامي أشاهد بعض الضغوط التي تواجه سوريا وحكامها الجدد تتجلى وسط الحشود التي يملؤها الحماس.
فقد سمع هؤلاء أن الرجل الذي كان حتى أقل من أسبوع مضى زعيماً محلياً وأباً روحياً لضاحيتهم – مثل عرّابي المافيا -، سيتم إعدامه.
الرجل المعروف باسم أبو منتجب كان أحد ضباط المخابرات العسكرية الذين يرى كثيرون أنهم مسؤولين عن مذبحة التضامن عام 2013، والتي راح ضحيتها 41 رجلاً من المنطقة على الأقل.
تعاظم الحشد حتى أغلق الآلاف من الناس الشوارع، فرحين بإعدام رجل النظام القاتل سيئ السمعة أمامهم في الساحة الرئيسية التي كان يتبختر فيها.
كان المجال حافلاً بالإثارة والتكهنات والغضب.
كانت العدالة تعني رؤية عدوهم وهو يموت، ليس فقط بسبب جرائمه، ولكن بسبب القسوة المفرطة لنظام الأسد.

امرأة مسنة تدعى منى صقر، ترتدي معطفاً أنيقاً وقبعة، كانت هناك لتراه يموت كالسارق والقاتل.
قالت: "سرق بيتي ومالي. بالطبع أريد أن أراه ميتاً. كنت لأفعل ذلك بنفسي، لكنني لم أجد طريقة لفعلها، أردت أن أقتله".
حين انتشرت الشائعات عن بدء عملية الإعدام، اندفعت الحشود ذهاباً وإياباً، وتزاحم الناس للحصول على أفضل موقع. كانت الهواتف مرفوعة عالياً بأذرع ممدودة لالتقاط مقطع فيديو.
لا أحد يريد أن يفوّت شيئاً. وحين تقرر تنفيذ الإعدام في الشارع، تدافع الناس فوق الأسيجة والسيارات العالقة في الزحام للوصول إلى المكان.
في النهاية، لم يكن هناك إعدام، على الأقل الآن. كانت شائعة على الأرجح، وأراد الآلاف تصديقها.
إذا لم يرد حكّام سوريا الجدد أن يُقاس التغيير بالدم، فعليهم أن يسيطروا على هذه الرغبة القاتلة في الانتقام.
فعندما تزول أوزار الدكتاتورية من فوق الأكتاف، تتحرر قوى جبارة. وكيفية تعامل حكام سوريا الجدد مع هذه القوى ستحدد شكل ما هو قادم.
 
عودة
أعلى