- المشاركات
- 19,998
- الإقامة
- تركيا
أصبح عجز المرء عن القيام بما يُعرف بـ "السفر ذهنياً عبر الزمن" أحدث حالة من حالات الذاكرة البشرية التي تثير اهتمام الباحثين وفضولهم كذلك. وربما تكون هذه الحالة أكثر شيوعاً مما نَحْسَبْ نظراً لأن غالبية من يعانون منها لا يدركون ذلك على الأرجح.
لا تتذكر سوزي ماكْينون فترة طفولتها أو أياً من مراحل حياتها، فكل ما تتذكره وتعيه يتلخص في مرحلتها العمرية الحالية؛ الستينيات من العمر. كما تعجز عن تذكر مناسبات خاصة كانت حاضرةً فيها، فهي - مثلاً - تعلم أنها ذهبت لعرس ابن شقيقها، وأن زوجها كان يرافقها، ولكنها لا تتذكر في الواقع أنها كانت هناك.
في حقيقة الأمر، لا تحتفظ ماكْينون في ذهنها سوى بالقليل للغاية من الذكريات المرتبطة بحياتها، ولكنها لا تعاني مع ذلك من فقدان الذاكرة.
ولسنوات طويلة، لم يكن لدى تلك السيدة أي فكرة عن أنها مختلفة عن سواها من البشر. فنحن ننزع لافتراض أن عقولنا جميعاً تعمل على الشاكلة ذاتها. بل إننا لا نناقش في أغلب الأحيان ما الذي يعنيه أن تحتفظ في ذهنك بذكرى ما.
ولذا كانت ماكْينون تفترض أن قدرة الآخرين على سرد قصص مُفصلّة وشديدة العمق عن أشياء مروا بها في الماضي، تعود فقط لكونهم يختلقون هذه التفاصيل بهدف التسرية عمن يستمعون إليهم. ولم تكتشف تلك السيدة حقيقة ما تعاني منه سوى عندما وافقت على الخضوع لاختبارٍ للذاكرة، بطلب من صديقة لها كجزء من تدريب كانت تتلقاه هذه الصديقة لتأهيلها لممارسة الطب.
ففي تلك اللحظة، اكتشفت السيدتان أن ذاكرة ماكْينون المتعلقة بكل ما يتصل بتفاصيل حياتها الماضية - وهو ما يُطلق عليه اسم "الذاكرة الذاتية أو الشخصية" - غير موجودة على الإطلاق تقريباً.
ورغم أن هذه السيدة قرأت وأطلعت على أبحاث ودراسات تتعلق بفقدان الذاكرة، فقد بدا لها أن القصص التي قرأتها عن أشخاص فقدوا ذاكرتهم بسبب الإصابة بأمراض أو بجروحٍ في المخ لا تشبه تجربتها هي، بما لا يجعلها تندرج في القائمة نفسها معهم.
فبوسعها تذكر أن أحداثاً ما قد وقعت ولكنها تعجز عن أن تستعيد ما الذي عايشته خلال حضورها لها. وقبل أكثر قليلاً من عقد من الزمان، كُسِرَتْ قدم ماكْينون، مما قلص كثيراً ما يمكن أن تفعله لتُزجي وقتها، مما حدا بها إلى أن تشرع في القراءة عن الأبحاث التي تتناول ما يُعرف بـ"السفر ذهنياً عبر الزمن"، ولأن تتخذ بالتبعية قرارها بالتواصل مع عالمٍ يجري أبحاثاً في هذا المضمار.
على أي حال، كانت ماكْينون تشعر بالتوتر وهي تبعث رسالةً بالبريد الإلكتروني إلى براين لَفين، العالم والباحث المتخصص في شؤون الذاكرة البشرية في معهد روتمان للأبحاث في مركز بايكريست في مدينة تورنتو الإيطالية.
ويتذكر لَفين يوم تسلمه الرسالة بوصفه أحد أكثر أيام مسيرته المهنية إثارةً. وقادت المراسلات والاتصالات التي جرت بينهما إلى كشف النقاب عن متلازمة جديدة أُطْلِقَ عليها اسم "الضعف الحاد للذاكرة الذاتية أو الشخصية".
المعروف أن لدى الإنسان قدرة استثنائية على "السفر والتنقل الذهني عبر الزمن"، ماضٍ فيه - وقتما يشاء - أماماً إلى المستقبل وخلفاً صوب الماضي. فبمقدورك الآن أن تستذكر أيام كنت تجلس في صفك بمدرستك الابتدائية، أو أن تتخيل صورتك وأنت جالسٌ في عطلة نهاية الأسبوع المقبلة على منشفةٍ كبيرة من تلك التي تُبسط على الشواطئ، لتشاهد الدلافين وهي تتقافز أمام ناظريك.
ومن المحتمل أن خيالك يمتد إلى ما هو أكثر من تصور تفاصيل مواقف معينة قد تعيشها في المستقبل، ليصل إلى تخيل كيف ستكون معايشتك الفعلية لمثل هذه المواقف، وهذا ما تعجز روزي ماكْينون عن القيام به.
وكما قال لي براين لَفين في سياق مقابلةٍ لبرنامج "أول إن ذا مَيند" بُثت على إذاعة "بي بي سي" باللغة الإنجليزية، فإن ماكْينون تشعر بأن الأحداث التي مرت بها في مراحل حياتها السابقة، تبدو لها تقريباً من منظور الشخص الثالث، وهو المفهوم المُستخدم في الأدب للإشارة إلى كتابة المؤلفات الأدبية بضمير الغائب غير المشارك في الأحداث.
بعبارةٍ أخرى، تبدو لـ "ماكْينون" هذه الأحداث "وكأنها ربما تكون قد حدثت في ماضي شخصٍ آخر". وبدرجةٍ ما، نَخْبُرُ جميعاً ذلك حينما ننسى غالبية ما يحدث لنا، ولكن الأمر مع هذه السيدة أكثر حدةً بكثير.
وتختلف هذه المتلازمة بشكلٍ كبيرٍ للغاية عن فقدان الذاكرة، الذي يحدث عادةً بعد حدث بعينه أو التعرض لإصابات في المخ، ما يجعل من العسير على من يحدث له ذلك أن يحتفظ بمعلومات جديدة تُمَكِنُهُ من استبقاء ذكرياتٍ تُضاف إلى تلك المختزنة لديه بالفعل.
فبوسع المصابين بمتلازمة "الضعف الحاد للذاكرة الذاتية أو الشخصية" تَعَلُم معلومات جديدة والاحتفاظ بها، ولكن هذه المعلومات تفتقر إلى الثراء والتفاصيل اللذين تتميز بهما التجارب الحياتية الفعلية والحقيقية.
فليس بمقدور ماكْينون مثلاً أن تتذكر تفاصيل أي حدث، ما لم تُعرض عليها صورةٌ له، أو أُلقيت على مسامعها قصةٌ بشأن ما الذي جرى فيه. فهي تعجز عن تصور كيف عايشت تجربة وجودها في مكانٍ ما؛ وما الذي ارتدته وقتذاك أو من كان معها.
وكما قالت لي في المقابلة التي بُثت في سياق البرنامج الإذاعي، إن الأمر يمكن أن يكون وكأن شخصاً آخر كان حاضراً لحفل الزفاف العائلي ذاك وليس هي، مُضيفةً بالقول: "فليس في رأسي أي دليل يثبت أنني كنت هناك. لا يبدو الأمر وكأنه شيءٌ فعلته أنا".
ويعني ذلك أنه ليس بوسع ماكْينون أن تَخْبُر شعور الحنين إلى الماضي واستذكار أيامه الخوالي. لكن لذلك جانباً إيجابياً أيضاً، إذ أنها لا تستطيع في الوقت نفسه استعادة الآلام المرتبطة بالأمور السيئة والمزعجة التي حدثت لها من قبل كذلك.
وفي حالة مواجهة ماكْينون لمكروهٍ من العيار الثقيل، من قبيل وفاة أحد أفراد أسرتها، يكون شعورها بالأسى والحزن جارفاً في وقت حدوث ذلك، لكن هذا الشعور سرعان ما يتلاشى.
من جهةٍ أخرى، قد تؤدي هذه الحالة المرضية إلى جعل تلك السيدة شخصيةً أكثر لطفاً في التعامل مع الآخرين إذ أنها لا تُكِنُ أي ضغائن، بفعل كونها تعجز عن استحضار الانفعالات التي جعلت مشاعر مزعجة تساورها في وقتٍ ما من الأصل.
وحتى الآن لم يتمكن الباحثون من التعرف على سببٍ لهذه المتلازمة، أو تحديد أي مرضٍ أو إصابةٍ على صلةٍ بها، وهو ما اضطرهم إلى استنتاج أن من يعانون منها ربما يولدون وهم مصابون بها.
لكن ذلك لم يحل دون أن يعكف براين لَفين وفريقه على دراسة الصلات المحتملة بين تلك المتلازمة وعوارض وحالاتٍ مرضيةٍ أخرى.
فـ "سوزي ماكْينون" مصابةٌ كذلك بحالةٍ عصبيةٍ تحمل اسم "أفانتازيا"؛ يعجز أصحابها عن تكوين صورٍ ذهنيةٍ للأشياء في عقولهم.
فهل هذه الحالة العصبية تحول دون أن تتمكن ماكْينون من أن تستبقي في ذهنها ذكرياتٍ ثريةً بالتفاصيل تخص ما يمر بها من أحداث، مُقارنةً بما يستطيع الأشخاص الآخرون القيام به في هذا الصدد؟
من العسير معرفة إجابة هذا السؤال على وجه اليقين. فقد أظهرت عقودٌ من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالذاكرة أننا نعيد تصور حدثٍ ما في أذهاننا في كل مرة نتذكره فيها. غير أننا لا نعلم ما إذا كنا جميعاً نقوم بذلك بالطريقة نفسها أم لا.
فربما يراه البعض بـ "عيون عقولهم" وقد تجسد على هيئة صورةٍ أو مقطعٍ مصورٍ، بينما قد يستعيد آخرون ذلك الحدث عبر التفكير بشكلٍ أكبر فيه، باعتبار أنه يتمثل في أفكارٍ أو حقائق مجردةٍ.
وتتساءل كاثرين لافداي أستاذة علم الأعصاب المعرفي في جامعة وِستمنستر عما إذا كانت هناك أوجه شبهٍ بين ذاكرة الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة، والذاكرة التي يحظى بها المرء في المراحل المبكرة للغاية من حياته.
فبمقدور البشر وصف أحداثٍ مروا بها وهم دون سن الثالثة، لأنهم ربما يكونون قد سمعوا عنها كثيراً أو رأوا صوراً خاصةً بها. ولكن يصعب عليهم تذكر كيف كان شعورهم ومعايشتهم لهذه الأحداث.
ومن غير المعروف في الوقت الحاضر مدى انتشار متلازمة "الضعف الحاد للذاكرة الذاتية أو الشخصية"، رغم أن لَفين وفريقه يسعون للتعرف على ذلك، من خلال استقصاءٍ نُشِرَ على شبكة الإنترنت.
وقد شارك نحو خمسة آلاف شخص بالفعل في هذا الاستقصاء، وقال كثيرٌ منهم إنهم يعتقدون بأنهم يعانون من تلك المتلازمة.
ورغم أن هذه الدراسة الاستقصائية اعتمدت على عينةٍ اختار أصحابها بأنفسهم المشاركة في البحث عوضاً عن أن يختارهم القائمون عليه وفقاً لمعايير علميةٍ بعينها، فإن أعداد من قالوا إنهم مصابون بتلك المتلازمة توحي بأن وجودها ليس بالأمر النادر.
وفي الوقت الحالي، يتحقق الفريق العامل مع لَفين من صحة فكرةٍ تفيد بأن "الذاكرة الذاتية أو الشخصية" ربما تقبع في مكانٍ ما على سلمٍ مؤلفٍ من عدة درجات. وبحسب هذه الفكرة، تقع هذه المتلازمة والمصابون بها على أحد طرفيْ السلم، بينما يقبع على أقصى الطرف الآخر من يتميزون بأن لديهم "ذاكرةً ذاتيةً" شديدة القوة على نحو استثنائي؛ أولئك الذين لا ينسون شيئاً تقريباً، مهما كان عادياً وبسيطاً.
الآن هل تُشكل إصابتك بهذه المتلازمة - إن حدثت - فارقاً بالنسبة لك حقاً؟ ربما ستكون الإجابة بالنفي على الأرجح، إذا كان ذلك لا يؤثر على الطريقة التي تعيش بها حياتك.
بالنسبة لـ "ماكْينون" فقد عاشت على الدوام على هذه الشاكلة، لذا تعد معرفتها بأن هذه هي حالةٌ مرضيةٌ حقيقيةٌ تعاني منها ربما منذ الولادة، أمرا مثيرا للاهتمام، ومسألة تفسر سبب الاختلاف الذي لاحظته أحياناً بينها وبين الآخرين.
علاوةً على ذلك، فقد صارت الآن تفهم أن من حولها لا يفبركون قصصاً ويختلقون تفاصيل. وتقول في هذا الشأن: "لم يسبق لي قط أن كانت لي ذاكرةٌ ذات طابعٍ مختلفٍ بأي شكلٍ من الأشكال. لذا بالنسبة لي ليس هناك من خسارةٍ (أو حرمانٍ من شيءٍ ما). فنظراً لأنني لم أحظ في أي وقتٍ من الأوقات بتلك المقدرة، فليس بوسعي في واقع الأمر أن أشعر بفكرة أنني افتقر إليها".
كما أن ماكْينون ترى فائدة أخرى لكونها لا تستطيع لا الإسهاب في التفكير في الماضي، ولا الاستغراق في أحلام اليقظة بشأن المستقبل.
وتقول: "أعلم أن الكثيرين يبذلون جهداً كبيرا من أجل تجسيد ذلك التصور المتمثل في أن يكونوا في قمة إدراكهم بحق لتفاصيل كل لحظةٍ حاضرةٍ يعيشونها. ولكن (الفارق) أن ذلك لا يتطلب بذل أدنى جهدٍ مني، لأن هذه من الأصل هي الطريقة الوحيدة التي يعمل بها عقلي. لذا فأنا بحق أعيش اللحظة الحاضرة وحدها بكل أبعادها وتفاصيلها، طوال الوقت".