رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,704
- الإقامة
- مصر
نظرات فى كتاب التسامح بين الفروسية الألمانية والفروسية العربية
الكتاب هو كتاب تاريخى عن علاقة العرب بالألمان أو بالأحرى بين من يطلق عليهم المسلمون وبين النصارى الألمان خلال فترات الصراع الصليبى وقد بين المؤلف أن الألمان لم يشاركوا فى الحملات الصليبية مشاركة ذات بال والسبب هو العداوة بين الأباطرة أو القياصرة الألمان وبين الباباوات فقال:
" الحق أن ثمة استثناءات تخللت الصراع المسلح الذي حطم قرونا عديدة بين الغرب والشرق، أو بين النصرانية والإسلام، حيث التقى الفريقان، كل على دينه، لقاء غير الأعداء، ويحفل التاريخ في هذا الصدد بصنيع بعض الشخصيات الألمانية التي عانت وكابدت كي لا تنساق وراء الحماس المسعور الذي أججه دعاة الحروب الصليبية من الباباوات، فقد قابلت تلك الشخصيات نذر المبعوث البابوي المطالبة بحمل الصليب بالارتياب بل وبالرفض.
وحينما استقر عزم أولئك الألمان على شن الحرب الهجومية، فإن ذلك لم يصدر عن دوافع أو غايات دينية، وإنما صدروا في ذل في أغلب الأحوال عن مطامع سياسية عليا للإمبراطورية الألمانية، بعد أن خلعوا عليها رداء الكنيسة كأنها هي أهداف كنسية، ذرا للرماد في العيون، ناظرين في ذلك إلى علاقاتهم التي لم تسلم بحال من الصراع بين الكرسي البابوي والأباطرة الألمان من سلالة شتاوفر.
نتج عن ذلك أن الحروب الصليبية ظلت بالدرجة الأولى قضية غرب وجنوب أوروبا ... وهكذا وباستمرار دأب الباباوات آنذاك على التوسل بالحروب الصليبية سلاحا يشهرونه لإضعاف الأباطرة أو القياصرة وتحطيم سلطانهم، مؤكدين حقهم المقدس في حكم الممالك الألمانية مستثمرين الضرائب التي جبيت لشن الحروب الصليبية في صراعهم الشخصي ضد الأباطرة الألمان من سلالة شتاوفر العظام، بل إنهم دعوا من فوق منابر الكنيسة إلى شن حرب صليبية على الأباطرة الألمان والإمبراطورية الألمانية.
لا ريب إذن في أن القياصرة أو الأباطرة الألمان الذين قرروا الإسهام في الحروب الصليبية، إنما فعلوا ذلك عن إدراك ووعي تام مضاد كلية للإرادة البابوية، لكي ينتزعوا من يد البابا السلاح السياسي الذي شهره في وجوههم فيتولوا هم أنفسهم زمام الأمر دونه."
ومن هذه الفقرة يتبين أن مشاركة الألمان فى الحروب الصليبية كانت دون إرادتهم ولسبب مختلف وهو نزع السلاح السياسى من يد البابا
وتحدث الرجل عن الصداقة بين بعض ملوك الشرق ألأوسط وبين القياصرة الألمان فقال :
"لقد توشجت أواصر الصداقة وعراها بين ثلاثة من أولئك القياصرة الألمان وبين بعض السلاطين المسلمين، وذلك في مأمن من رياح التعصب الديني الذي دأب مؤججوه على إضرامه منذ ثلاثة أجيال خلت من قبل ... ولا بد لنا هنا أن نتساءل عن السر في بخل التاريخ بأنباء أولئك العظام وضنه بالإفاضة في ذكر الظروف غير المعتادة والملابسات التي عايشوها. اللهم إذا استثنينا منهم القيصر فريدريك الثاني؟! ...
ومن ذا الذي يدري حقيقة الوقائع العجيبة والأحداث الغريبة التي جرت من قبل بين جده القيصر فريدريك الأول وبين السلطان المسلم صلاح الدين الأيوبي، الذي يعرفه الغرب بإسم (سلادين)، فلقد سادت علاقات العاهلين الدبلوماسية روح الوئام والسلام، إبان زمن عصفت به حمى الحروب الصليبية والخصام، حتى إن التاريخ ليسجل عام 1173 ميلادية وصول وفد السلطان صلاح الدين إلى بلاط القيصر في آخن بألمانيا، قادما من القاهرة حاملا رسالته التي يطلب فيها يد ابنة القيصر لإبنه، على أن يتم تتويج ابن صلاح الدين هذا ملكا على النصارى!
فيا لذلك من عرض! ويا له من حلم للربط بين الشرق والغرب! لا غرو إذن أن يفكر القيصر في الأمر مليا، فاستبقى الوفد العربي في بلاطه ضيوفا نصف عام، وإبان ذلك هيأ لهم زيارة عديد من مدن مملكته، وبعد عام أرسل مبعوثه القيم على شئون الأديرة والكنائس (بوركهارد فون ستراسبرج) بهدية إلى السلطان بالقاهرة، كتلطف في الإعتذار.
على أن علاقات المودة بين العاهلين الكبيرين لم تتأثر بذلك مطلقا، بالرغم من تواتر الأنباء التي هزت كيان الغرب عام 1178 م، بالهزيمة النكراء للفرنجة في حطين - على مرتفعات الجولان – وفقدان الصليب المقدس واسترداد صلاح الدين لبيت المقدس، الأمر الذي أثار في الغرب عاصفة من الفزع والاستنكار والهلع.
وانطلاقا من صحة المقولة التي تزعم بحق أن الصورة المجسدة تؤلب في الوجدان ما يعجز عنه اللسان، عمد دعاة الحروب الصليبية إلى النفخ عبثا في جذوة الثأر الخامدة، فصوروا على الكرتون ونحوه صورا وأشكالا بشعة حاقدة، وقام الرهبان بحمل تلك التصاوير مطوفين بها في الشوارع والطرقات، وقد ارتدوا زكائب خشنة منسوجة من شعر المعز، إمعانا في إظهار فداحة الخطب، منادين بالويل والثبور وعظائم الأمور، فمن صورة فارس بربري يوطئ قبر المسيح سنابك فرسه، وقد راح يبول فوقه إمعانا في الامتهان، إلى صورة همجي لا يكف عن صفع المسيح وإدماء وجهه ... ثم يقوم حاملو تلك الصور الكرتونية (بتنوير) الممعن النظر في الصورة والذي يقشعر لما يرى، فيبين له أن ذلك الرجل الذي يرى صورته ليس سوى (محمد) الذي راح يصفع المسيح ويدمي وجهه حتى أجهز عليه قتلا.
ولقد مثل مبعوثو البابا ثلاث مرات بين يدي القيصر، كما مثلوا أيضا أمام مجلس البلاط المنعقد في ستراسبورج متوسلين بكل من حفل به سجل الخطباء من مفوهين، لكي يحملوا القيصر على قبول شارة الصليب من البابا لخوض حرب صليبية فأبى، وخاب المسعى.
ثم إنصرم عام تام، بعده اتخذ القيصر قرارا وحده بخوض الحرب، دون وصاية أو تكليف بابوي، وكان من قبل قد أرسل في 26 مايو 1188 مبعوثه النبيل هاينرش فون ديتس برسالة إلى السلطان صلاح الدين معربا فيها عن شكره إياه لتلقيه رسائله، وعن أسفه لاضطراره إلى خوض الحرب ضده إذا ما رفض صلاح الدين التنازل عن بيت المقدس وإطلاق سراح أسرى الحرب من الفرنجة.
ويكتب القيصر إلى السلطان في أول نوفمبر عام 1189 طالبا إليه النزال والمبارزة بينهما فحسب، انطلاقا من روح الفروسية – وحقنا للدماء – ولقد تجنب صلاح الدين الرد المباشر على صديقه الحق (المبجل فريدريك، ملك ألمانيا العظيم) مقترحا عليه أن يقوم بإطلاق سراح أسرى الفرنجة كافة، وضمان حرية إقامة الصلوات والقداس وبقية الشعائر الكنسية أبدا في كنيسة القيامة، بل وضمان حرية النصارى في الحج وزيارة قبر المسيح وسائر مقدسات النصارى، مقابل إعادة المحلتين الفرنجة لكافة القلاع والحصون التي في حوزتهم، الأمر الذي لم يكن في نطاق سلطة القيصر.
ولا أحد يدري اليوم القرار الذي اتخذه القيصر آنذاك، والذي ربما غير مسار الحروب الصليبية لو لم يبترد في المياه الثلجية لنهر السالب المنحدرة من الجبال جنوب الأناضول، فعاجلته المنية بالسكتة القلبية، وهكذا حال الموت دون نزال البطلين الصديقين اللذين ترأسا القوتين العظيمتين المتعاديتين حتى الموت.
بعد سنوات سبع، نرى القيصر هايزسن السادس، ابن القيصر الراحل، يقتفي خطوات أبيه، في عقد أواصر الصداقة بحملته السلمية دون إراقة دماء.
ولقد كان حفيد أولهما وابن ثانيهما: القيصر فريدريك الثاني الذي حقق بحملته الصليبية التي لم يرفع فيها سلاحا، ولم يهرق نقطة دم، أربعة أضعاف ما كان عرضه من قبل صلاح الدين، حيث كفلت المعاهدة التي عقدها مع السلطان الملك الكامل ابن أخ صلاح الدين، المساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين والاحترام المتبادل والحرية الكاملة لليهود والنصارى والمسلمين في إقامة شعائرهم الدينية في كافة أنحاء الأرض المقدسة كما شاءوا، ويزف القيصر البشر إلى جيشه بأن (المهمة قد كللت بالنجاح) ويعهد إلى (هرمان فون زالتسا) بنقل تلك البشرى بأنه أخيرا تحقق الهدف المنشود، الذي لم يستطع أحد تحقيقه منذ أمد بعيد، سواء النبلاء أو العظماء بما اجتمع لهم من حشود، عتاد وجنود، أو الوعد والوعيد."
ومن الحديث السابق يتبين أن الألمان بعدوا عن الحروب الصليبية من خلال رسائلهم مع سلاطين المنطقة وأنهم حصلوا بمعاهدات السلام على الذى لم يحصل عليه الصليبيون بالحروب
وفى الفقرة التالية يشرح المؤلف أن بسبب النصر السلمى الألمانى قام البابا بطرده من الكنيسة وأمر الجيوش بالاستيلاء على ممتلكاته مثل جزيرة صقلية وزاد البابا على ذلك أن خاطب سلطان الدولة الأيوبية طالبا منه ألا يفى بشرط اعطاء القبر المقدس للقيصر ولكن السلطان أرسل للقيصر برسالة البابا ليعرفه خيانته له ومن ثم زادت العداوة بين القيصر والبابا الذى أعلن صمت الكنائس وفى هذا قال :
"على أن (ذلك الفتح العظيم والهدف الذي تحقق، والذي كان خطوة في سبيل توحيد قلوب الفريقين) لم يرق في عين البابا المقدس في روما، فغدا القيصر الألماني غرضا لسهامه ... أجل؛ إن ذلك الفتح الذي عجز البابا عن تحقيق أقل منه؛ على الرغم مما بذل من أقصى الجهد وكل وسيلة ممكنة، ومما أحتشد له من الحشود الهائلة، وبالأموال الطائلة، وما ضحى به من النفس زاعما أنها الحرب المقدسة في سبيل الله وبإسمه لتحرير (القبر المقدس)، إنما وضع البابا في موقف حرج، فكان ذلك بالذات ما أضرم نار المقت على أعلى مستويات الكنيسة للقيصر الألماني أشد ما يكون المقت إضراما ...
ولقد أنزل البابا بالقيصر وحده لعنة الطرد من رحمة الكنيسة وأعلن موت القيصر بالنسبة له، وأمر قواته الخاصة المعروفة بإسم (حملة المفاتيح) بالهجوم على صقلية – المملكة التي كانت تحت حكم القيصر – وإجبار مواطنيها على خلع القيصر والتحلل من يمين الولاء التي كانوا قد حلفوها لبيعته وطاعته؛ بل إن البابا ذهب إلى أبعد من ذلك حيث طلب إلى عدوه اللدود سرا: سلطان (الكفار) إن لا يعطي القيصر القبر المقدس، وبلغ الإنحطاط والتعري عن الكرامة الرسولية الذروة في تدبيره مع (فرسان المعبد) خطة لاغتيال القيصر، عند توجهه إلى نهر الأردن ليتعمد في مياهه؛ وكان السلطان المسلم بشخصه هو الذي أنقذ حياة قيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة، (فقد استاء لتلك الخيانة الوضيعة أشد الاستياء) وأرسل إلى القيصر الوثيقة التي تثبت الخيانة ممهورة بختم رئيس (فرسان المعبد).
وقبل إياب القيصر إلى الوطن، تجلى الغضب الكنسي والحنق على إبرام اتفاقية السلام والمساواة بين القيصر والسلطان في إعلان عقوبة الكنيسة على بيت المقدس بأن تصمت نواقيسها جميعا طالما بقى القيصر في رحابها، وعندما أخذ القيصر وجيشه في العودة أمطرهم رجال الكنيسة بوابل من الروث والبراز، قذفا بالمقاليع ... "
ويذكر المؤلف رسالة القيصر للسلطان كدليل على عمق الصلات بينهم وقوة العلاقات فيقول:
"وتصور رسالة الوداع التي كتبها القيصر وهو مبحر على متن سفينته، إلى الأمير – فخر الدين الذي كان ضيفا في بلاطه في صقلية موفدا من قبل السلطان، والذي كان في يافا من قبل يقتسم معه خيمته إبان قيامه بإدارة المباحثات بين العاهلين لإبرام اتفاقية السلام – مدى تعلق القيصر بأصدقائه العرب ...
لويس من قبيل الصدفة أن تلك الرسالة التي كتبها القيصر نفسه باللغة العربية التي تعلمها منذ صغره في موطنه صقلية إلى جانب اللغة اللاتينية – وقد تعلم بعضها من العرب الذين كانوا يعيشون في صقلية – إلى صديقه العربي، أعظم رسالة مؤثرة أبدعتها ريشة القيصر، لأنها وثيقة شخصية فاضت بها نفسه بعد الفراق، فأملت عليه البوح بمكنون العلائق البشرية، مما اعتاد أمثاله كتمانه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أزف الترحال بين أن قلوبنا ... * ... أبت الرحيل ففارقت أجسادنا
وهوت إلى كنف الصداقة عندكم ... * ... مأسورة، ثم استقرت عندنا
لا نريد أن نذكر ما نعاني من لواعج ما نكابد من الجوى، ولا ما يتملكنا من الحزن والأسى، ولا الشوق المستبد إلى ما نفتقده من الصحبة الممتعة والمجالسة المؤنسة للفخر، أطل الله عمره. والمعذرة أننا هنا لم نتمالك أنفسنا ففاضت وأفضت بمكنونها، وكيف ولست سوى رجل يضطرب فيه ما يضطرب، وهو يرى أنه فرد وحيد في هذه الدنيا، يحن إلى ساعات السكينة والصفاء، ولقاء الأصدقاء ... إن أسى الفراق قد أعقب السكينة وبلوغ الأرب، واليأس من التحين لمحادثتنا ... )
ثم يخاطب القيصر صديقه بلفظ المتكلم الفرد، تاركا صيغة الجمع التقليدية التي يتوسل بها جلالته، كاشفا بذلك كل غطاء يحجب ذاته عن صديقه، فيقول: (حينما فارقتني كنت في حالة، لو أن أحدا من البشر خيرني فيها بين البعد عنك أو الموت، لكنت أجبته ضارعا: لبيك؟ جد علي بهذه المكرمة!).
والحق أن موقف القيصر هذا، الذي يزن فيه المرء خصمه ويقدره حق قدره مجردا عن التجني ومشاعر البغضاء، رائيا فيه الإنسان، طالما يستحق أن يتصف بالإنسانية، فيحترمه لذلك؛ إنما هو خصيصة أخلاقيات المحاربين الجيرمان القدامى، ولقد ترسخت تلك الخصيصة وفرضت نفسها صورة قديمة من صور الفروسية خاصة في ألمانيا.
ليس الخيال وحده إذن هو الحافل بالشهادات القيمة في معاملة الخصم معاملة تخلو من التجني الظالم، وتقيمه موضوعيا، وتقدم له ما يستحق من احترام وتقدير، وتتيح للصداقة أن تنمو وتترعرع بين الخصوم.
ونرى الشاعر يرفع صوته معترضا على تعاليم الكنيسة التي تحكم بحياة من عمد أو بموت غير المعمدين، فيقول:
(أليست خطيئة أن المرء هكذا
يذبح البشر الذين لم يأتهم نبأ التعميد
كما تذبح الماشية؟!
بل إنني أعني أن هذه الخطيئة من أشد الكبائر
لأننا جميعا خلق الله؛
كافة الأجناس بألسنتها الاثنتين والسبعين
إنما هو الذي خلقها وسواها)."
ويبين المؤلف أن من شدة عمق الصلات بين الجانبين عبر أحد المشاركين ألأمان عن اعتذاره عن مشاركته فى الحملة الصليبية على دمياط معبرا عن امتنانه عما فعله السلطان الكامل وجنوده باطعام الصليبين يوميا رغم أنهم قتلوا الكثيرين من أهل البلد فقال :
"ومن الشواهد الدالة على هذا الموقف الأخلاقي أن أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية، بعد عودته إلى وطنه على نهر الراين لم يجد بدا من تحرير رسالة إلى سلطان مصر الملك الكامل يعبر فيها عن مشاعره تعبيرا مؤثرا، وقد ترسخت في مخيلته المذابح الفظيعة التي أبيد فيها أهل دمياط بمصر جميعهم، بناءا على أوامر البابا ومبعوثيه الكرادلة ورجالات الكنيسة وذلك بعد الاستيلاء على حصن دمياط بعد حصار طال ...
ولم يكن ذلك الألماني سوى عالم الفلسفة اللاهوتية (أوليفروس) من كولونيا على نهر الراين بألمانيا الذي بهره ما اكتشفه من المروءة والفروسية العربية التي أثبتها في شخصية السلطان الكامل، على الرغم من جميع الأهوال والفظائع التي اعتادها السلطان من قبل النصارى، ولقد سجل ذلك الشاهد ما لمسه بعينه كما لو كان حدثا سعيدا لا يمكن للعقل أن يتصوره، فقام بكتابة الرسالة التالية إلى السلطان الكامل عام 1221 م، والمعروف بصداقته للقيصر فريدريك الثاني، إذ أنه لم يقتص من الصليبيين العين بالعين والسن بالسن وإنما أطعمهم في مسغبتهم أربعة أيام طوالا، مرسلا إلى جيشهم المتضور جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف، ومواد غذائية أخرى، كتب يقول:
(منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود،
خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله ... إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان)."
ويبين المؤلف أمن فى مقابل الإحسان من سلاطين بنى أيوب فإن الكثير من النصارى من الملوك كريتشارد قلب الأسد خان عهده بالحفاظ على الأسرى فذبحهم جميعا رغم تعهده لهم بتأمين حياتهم فقال :
"هنا كان ينبغي أن يقرع ناقوس، وأن تتجاوب لرنين نواقيس أخرى ... وإذا كان عربي قد قدم مثل هذا البرهان على السمو الإنساني والمروءة المتناهية، فإن ذلك ليس بدعا أو حدثا مفردا، فثمة شواهد أخرى في هذا الصدد، ونذكر هنا الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، الذي نشأ في الغرب تنشئة الملوك الشرفاء، فقد مرغ تلك السمعة الطيبة في العار، ودأب على تلويثها بشكل مخز دائما أبدا، فبينما أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أن حياتهم آمنة، إذ هو فجأة منقلب المزاج فيأمر بذبحهم جميعا، ويحذو قائد الجيش الفرنسي حذوه سريعا، وهكذا لطخ بفعلته النكراء، وسفكه تلك الدماء، سمعته إلى الأبد، وضيع ثمرة انتصاره في أذيال الخزي والهوان ...| فى مقابل مقض الكثير من ملوك النصارى لعودهم ومن قيامهم بمذابح أثناء الاستيلاء على الكثير من مناطق الشام فإن صلاح الدين لم يفعل مذابح لهم بالمقابل بعد أن تمكن منهم وفى هذا قال المؤلف:
"وعلى العكس من هذا عرفنا صلاح الدين، الذي أخزى قواد جيوش النصارى، فلم ينتقم قط من أسراهم النصارى الذين كانوا تحت رحمته، ردا على خيانتهم وغدرهم، وفظاعتهم الوحشية التي ليس لها حد.
ولقد أخزاهم صلاح الدين مرة أخرى حين تمكن من استرداد بيت المقدس، التي كان الصليبيون قد انتزعوها منه من قبل، بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة، فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية."
ويبين المؤلف أن الصليبين لم يتورعوا عن ذبح غير المقاتلين فى أثناء حروبهم فذبحوا الكل مسلمين وحتى فى حروبهم بين بعضهم نهبوا الكنائس وباعوا مخلفاتها وفى هذا قال :
"على العكس من المسلمين لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي يفرض عليها أن تسمح لأولئك (الكفار) بممارسة حقوقهم الطبيعية، الأمر الذي يمليه على الأقل حق الجوار ومحبته، كما شعرت تلك الفروسية النصرانية بأنه ليس لزاما عليها أن تلتزم بكلمة الشرف التي تعطيها لغير النصراني.
وحينما سفك فرسان الحملة الصليبية عام 1204 وازداد نهمهم لطول ما حرموا من فريستهم الموعودة، فانقضوا على المدينة الغنية في أسبوع عيد الفصح ... وأتوا فيها من ضروب السلب والنهب ما لم تشهده روما نفسها على أيدي الوندال أو القوط، نعم إنه لم ... يقتل في هذه الحوادث كثيرون من اليونان – فلعل عدد القتلى لم يتجاوز ألفين، أما السلف والنهب فلم ... يقفا عند حد، ووزع الأشراف القصور فيما بينهم واستولوا على ما وجوده فيها من الكنوز، واقتحم الجنود ... البيوت، والكنائس، والحوانيت، واستولوا على كل ما رقهم مما فيها، ولم يكتفوا بتجريد الكناس مما ... تجمع فيها من الذهب والفضة والجواهر، بل جردوها فوق ذلك من المخلفات المقدسة، ثم بيعت هذه ... المخلفات بعدئذ في أوروبا الغبية بأثمان عالية، وعانت كنيسة أيا صوفيا من النهب ما لم تعانه فيما بعد على ... يد الأتراك عام 1453 م."
وحتى الباباوات اشتكوا من شدة أفعال الصليبين المنكرة مع النصرانيات من اغتصاب وزنى بالاكراه وفى هذا قال المؤلف :
" وبذلت محاولات ضئيلة للحد من اغتصاب النساء، وقنع القليلون من الجنود بالعاهرات حتى أن ... إنوسنت الثالث أخذ يشكو من أن شهوات اللاتين المكبوتة لم ينج منها الكبار أو الصغار، ولا الذكور أو ... الإناث، ولا أهل الدنيا أو الدين. فقد أرغمت الراهبات اليونانيات على احتضان الفلاحين أو السائسين ... البنادقة والفرنسيين. وبددت في أثناء هذا السلب والنهب محتويات دور الكتب وأتلفت المخطوطات الثمينة ... أو فقدت، واندلعت ألسنة النيران بعدئذ مرتين في المدينة فالتهمت دور الكتب والمتاحف، وسرقت آلاف ... من روائع الفن أو شوهت أو أتلفت.
حتى دم إخوانهم من النصارى في بيزنطة، أخذ نيكتاس أكوميناتوس يبكي مصارعهم قائلا: (بل إن محاربي المسلمين الأعداء أنفسهم، رحماء طيبون، قياسا إلى أولئك القوم، الذين يحملون صليب المسيح على أكتافهم)
وأنهى المؤلف مقالته بالعبارة التالية:
"والحق أن الفروق الحاسمة في التعامل مع أتباع الملة الأخرى راسخة في تفهم كل من الإسلام والنصرانية لطبيعته وفي اختلاف تفهم كل منهما للبشر."
ومع أنى لا أصدق معظم التاريخ فإن الحملات الصليبية ما زالت آثارها موجودة فى المنطقة فى صور مختلفة أهمها الجمعات التى تعتنق مذاهب نصرانية كالمارون أو تعتنق أديان جديدة كالنصيرية والدروز والأهم توزيع عائلات نصرانية وعلى أديان اخرى فى بلادنا المختلفة هى من يحكم أولادها حاليا بلادنا بأسماء المسلمين أو من خلال بناتهم أزواج الحكام وغالبا من يرى وجوه حكام أو زعماء كعائلة للأسد وأولاده وأولاد جنبلاط وحتى بعض رؤساء تونس والجزائر وزعماء المعارضة فى بلاد مختلفة سيتبين له الشبه بينهم وبين النبلاء الفرنسيس وبالطبع من ذكرناه من البلاد لا يعنى أنهم غير موجودين فى بقية البلاد ولكن تلك الحملات أبقت العديد من أسرها فى بلادنا وطلبت منهم إعلان إسلامهم مع بقائهم فى الولاء للغرب وهناك عائلات معروفة فى كل قطر وهى من تتحكم فى اقتصاديات كل قطر والغريب أنهم لا يعلنون أنهم من جنسيات الصليب وإنما ينسبون للترك فى الغالب
الكتاب هو كتاب تاريخى عن علاقة العرب بالألمان أو بالأحرى بين من يطلق عليهم المسلمون وبين النصارى الألمان خلال فترات الصراع الصليبى وقد بين المؤلف أن الألمان لم يشاركوا فى الحملات الصليبية مشاركة ذات بال والسبب هو العداوة بين الأباطرة أو القياصرة الألمان وبين الباباوات فقال:
" الحق أن ثمة استثناءات تخللت الصراع المسلح الذي حطم قرونا عديدة بين الغرب والشرق، أو بين النصرانية والإسلام، حيث التقى الفريقان، كل على دينه، لقاء غير الأعداء، ويحفل التاريخ في هذا الصدد بصنيع بعض الشخصيات الألمانية التي عانت وكابدت كي لا تنساق وراء الحماس المسعور الذي أججه دعاة الحروب الصليبية من الباباوات، فقد قابلت تلك الشخصيات نذر المبعوث البابوي المطالبة بحمل الصليب بالارتياب بل وبالرفض.
وحينما استقر عزم أولئك الألمان على شن الحرب الهجومية، فإن ذلك لم يصدر عن دوافع أو غايات دينية، وإنما صدروا في ذل في أغلب الأحوال عن مطامع سياسية عليا للإمبراطورية الألمانية، بعد أن خلعوا عليها رداء الكنيسة كأنها هي أهداف كنسية، ذرا للرماد في العيون، ناظرين في ذلك إلى علاقاتهم التي لم تسلم بحال من الصراع بين الكرسي البابوي والأباطرة الألمان من سلالة شتاوفر.
نتج عن ذلك أن الحروب الصليبية ظلت بالدرجة الأولى قضية غرب وجنوب أوروبا ... وهكذا وباستمرار دأب الباباوات آنذاك على التوسل بالحروب الصليبية سلاحا يشهرونه لإضعاف الأباطرة أو القياصرة وتحطيم سلطانهم، مؤكدين حقهم المقدس في حكم الممالك الألمانية مستثمرين الضرائب التي جبيت لشن الحروب الصليبية في صراعهم الشخصي ضد الأباطرة الألمان من سلالة شتاوفر العظام، بل إنهم دعوا من فوق منابر الكنيسة إلى شن حرب صليبية على الأباطرة الألمان والإمبراطورية الألمانية.
لا ريب إذن في أن القياصرة أو الأباطرة الألمان الذين قرروا الإسهام في الحروب الصليبية، إنما فعلوا ذلك عن إدراك ووعي تام مضاد كلية للإرادة البابوية، لكي ينتزعوا من يد البابا السلاح السياسي الذي شهره في وجوههم فيتولوا هم أنفسهم زمام الأمر دونه."
ومن هذه الفقرة يتبين أن مشاركة الألمان فى الحروب الصليبية كانت دون إرادتهم ولسبب مختلف وهو نزع السلاح السياسى من يد البابا
وتحدث الرجل عن الصداقة بين بعض ملوك الشرق ألأوسط وبين القياصرة الألمان فقال :
"لقد توشجت أواصر الصداقة وعراها بين ثلاثة من أولئك القياصرة الألمان وبين بعض السلاطين المسلمين، وذلك في مأمن من رياح التعصب الديني الذي دأب مؤججوه على إضرامه منذ ثلاثة أجيال خلت من قبل ... ولا بد لنا هنا أن نتساءل عن السر في بخل التاريخ بأنباء أولئك العظام وضنه بالإفاضة في ذكر الظروف غير المعتادة والملابسات التي عايشوها. اللهم إذا استثنينا منهم القيصر فريدريك الثاني؟! ...
ومن ذا الذي يدري حقيقة الوقائع العجيبة والأحداث الغريبة التي جرت من قبل بين جده القيصر فريدريك الأول وبين السلطان المسلم صلاح الدين الأيوبي، الذي يعرفه الغرب بإسم (سلادين)، فلقد سادت علاقات العاهلين الدبلوماسية روح الوئام والسلام، إبان زمن عصفت به حمى الحروب الصليبية والخصام، حتى إن التاريخ ليسجل عام 1173 ميلادية وصول وفد السلطان صلاح الدين إلى بلاط القيصر في آخن بألمانيا، قادما من القاهرة حاملا رسالته التي يطلب فيها يد ابنة القيصر لإبنه، على أن يتم تتويج ابن صلاح الدين هذا ملكا على النصارى!
فيا لذلك من عرض! ويا له من حلم للربط بين الشرق والغرب! لا غرو إذن أن يفكر القيصر في الأمر مليا، فاستبقى الوفد العربي في بلاطه ضيوفا نصف عام، وإبان ذلك هيأ لهم زيارة عديد من مدن مملكته، وبعد عام أرسل مبعوثه القيم على شئون الأديرة والكنائس (بوركهارد فون ستراسبرج) بهدية إلى السلطان بالقاهرة، كتلطف في الإعتذار.
على أن علاقات المودة بين العاهلين الكبيرين لم تتأثر بذلك مطلقا، بالرغم من تواتر الأنباء التي هزت كيان الغرب عام 1178 م، بالهزيمة النكراء للفرنجة في حطين - على مرتفعات الجولان – وفقدان الصليب المقدس واسترداد صلاح الدين لبيت المقدس، الأمر الذي أثار في الغرب عاصفة من الفزع والاستنكار والهلع.
وانطلاقا من صحة المقولة التي تزعم بحق أن الصورة المجسدة تؤلب في الوجدان ما يعجز عنه اللسان، عمد دعاة الحروب الصليبية إلى النفخ عبثا في جذوة الثأر الخامدة، فصوروا على الكرتون ونحوه صورا وأشكالا بشعة حاقدة، وقام الرهبان بحمل تلك التصاوير مطوفين بها في الشوارع والطرقات، وقد ارتدوا زكائب خشنة منسوجة من شعر المعز، إمعانا في إظهار فداحة الخطب، منادين بالويل والثبور وعظائم الأمور، فمن صورة فارس بربري يوطئ قبر المسيح سنابك فرسه، وقد راح يبول فوقه إمعانا في الامتهان، إلى صورة همجي لا يكف عن صفع المسيح وإدماء وجهه ... ثم يقوم حاملو تلك الصور الكرتونية (بتنوير) الممعن النظر في الصورة والذي يقشعر لما يرى، فيبين له أن ذلك الرجل الذي يرى صورته ليس سوى (محمد) الذي راح يصفع المسيح ويدمي وجهه حتى أجهز عليه قتلا.
ولقد مثل مبعوثو البابا ثلاث مرات بين يدي القيصر، كما مثلوا أيضا أمام مجلس البلاط المنعقد في ستراسبورج متوسلين بكل من حفل به سجل الخطباء من مفوهين، لكي يحملوا القيصر على قبول شارة الصليب من البابا لخوض حرب صليبية فأبى، وخاب المسعى.
ثم إنصرم عام تام، بعده اتخذ القيصر قرارا وحده بخوض الحرب، دون وصاية أو تكليف بابوي، وكان من قبل قد أرسل في 26 مايو 1188 مبعوثه النبيل هاينرش فون ديتس برسالة إلى السلطان صلاح الدين معربا فيها عن شكره إياه لتلقيه رسائله، وعن أسفه لاضطراره إلى خوض الحرب ضده إذا ما رفض صلاح الدين التنازل عن بيت المقدس وإطلاق سراح أسرى الحرب من الفرنجة.
ويكتب القيصر إلى السلطان في أول نوفمبر عام 1189 طالبا إليه النزال والمبارزة بينهما فحسب، انطلاقا من روح الفروسية – وحقنا للدماء – ولقد تجنب صلاح الدين الرد المباشر على صديقه الحق (المبجل فريدريك، ملك ألمانيا العظيم) مقترحا عليه أن يقوم بإطلاق سراح أسرى الفرنجة كافة، وضمان حرية إقامة الصلوات والقداس وبقية الشعائر الكنسية أبدا في كنيسة القيامة، بل وضمان حرية النصارى في الحج وزيارة قبر المسيح وسائر مقدسات النصارى، مقابل إعادة المحلتين الفرنجة لكافة القلاع والحصون التي في حوزتهم، الأمر الذي لم يكن في نطاق سلطة القيصر.
ولا أحد يدري اليوم القرار الذي اتخذه القيصر آنذاك، والذي ربما غير مسار الحروب الصليبية لو لم يبترد في المياه الثلجية لنهر السالب المنحدرة من الجبال جنوب الأناضول، فعاجلته المنية بالسكتة القلبية، وهكذا حال الموت دون نزال البطلين الصديقين اللذين ترأسا القوتين العظيمتين المتعاديتين حتى الموت.
بعد سنوات سبع، نرى القيصر هايزسن السادس، ابن القيصر الراحل، يقتفي خطوات أبيه، في عقد أواصر الصداقة بحملته السلمية دون إراقة دماء.
ولقد كان حفيد أولهما وابن ثانيهما: القيصر فريدريك الثاني الذي حقق بحملته الصليبية التي لم يرفع فيها سلاحا، ولم يهرق نقطة دم، أربعة أضعاف ما كان عرضه من قبل صلاح الدين، حيث كفلت المعاهدة التي عقدها مع السلطان الملك الكامل ابن أخ صلاح الدين، المساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين والاحترام المتبادل والحرية الكاملة لليهود والنصارى والمسلمين في إقامة شعائرهم الدينية في كافة أنحاء الأرض المقدسة كما شاءوا، ويزف القيصر البشر إلى جيشه بأن (المهمة قد كللت بالنجاح) ويعهد إلى (هرمان فون زالتسا) بنقل تلك البشرى بأنه أخيرا تحقق الهدف المنشود، الذي لم يستطع أحد تحقيقه منذ أمد بعيد، سواء النبلاء أو العظماء بما اجتمع لهم من حشود، عتاد وجنود، أو الوعد والوعيد."
ومن الحديث السابق يتبين أن الألمان بعدوا عن الحروب الصليبية من خلال رسائلهم مع سلاطين المنطقة وأنهم حصلوا بمعاهدات السلام على الذى لم يحصل عليه الصليبيون بالحروب
وفى الفقرة التالية يشرح المؤلف أن بسبب النصر السلمى الألمانى قام البابا بطرده من الكنيسة وأمر الجيوش بالاستيلاء على ممتلكاته مثل جزيرة صقلية وزاد البابا على ذلك أن خاطب سلطان الدولة الأيوبية طالبا منه ألا يفى بشرط اعطاء القبر المقدس للقيصر ولكن السلطان أرسل للقيصر برسالة البابا ليعرفه خيانته له ومن ثم زادت العداوة بين القيصر والبابا الذى أعلن صمت الكنائس وفى هذا قال :
"على أن (ذلك الفتح العظيم والهدف الذي تحقق، والذي كان خطوة في سبيل توحيد قلوب الفريقين) لم يرق في عين البابا المقدس في روما، فغدا القيصر الألماني غرضا لسهامه ... أجل؛ إن ذلك الفتح الذي عجز البابا عن تحقيق أقل منه؛ على الرغم مما بذل من أقصى الجهد وكل وسيلة ممكنة، ومما أحتشد له من الحشود الهائلة، وبالأموال الطائلة، وما ضحى به من النفس زاعما أنها الحرب المقدسة في سبيل الله وبإسمه لتحرير (القبر المقدس)، إنما وضع البابا في موقف حرج، فكان ذلك بالذات ما أضرم نار المقت على أعلى مستويات الكنيسة للقيصر الألماني أشد ما يكون المقت إضراما ...
ولقد أنزل البابا بالقيصر وحده لعنة الطرد من رحمة الكنيسة وأعلن موت القيصر بالنسبة له، وأمر قواته الخاصة المعروفة بإسم (حملة المفاتيح) بالهجوم على صقلية – المملكة التي كانت تحت حكم القيصر – وإجبار مواطنيها على خلع القيصر والتحلل من يمين الولاء التي كانوا قد حلفوها لبيعته وطاعته؛ بل إن البابا ذهب إلى أبعد من ذلك حيث طلب إلى عدوه اللدود سرا: سلطان (الكفار) إن لا يعطي القيصر القبر المقدس، وبلغ الإنحطاط والتعري عن الكرامة الرسولية الذروة في تدبيره مع (فرسان المعبد) خطة لاغتيال القيصر، عند توجهه إلى نهر الأردن ليتعمد في مياهه؛ وكان السلطان المسلم بشخصه هو الذي أنقذ حياة قيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة، (فقد استاء لتلك الخيانة الوضيعة أشد الاستياء) وأرسل إلى القيصر الوثيقة التي تثبت الخيانة ممهورة بختم رئيس (فرسان المعبد).
وقبل إياب القيصر إلى الوطن، تجلى الغضب الكنسي والحنق على إبرام اتفاقية السلام والمساواة بين القيصر والسلطان في إعلان عقوبة الكنيسة على بيت المقدس بأن تصمت نواقيسها جميعا طالما بقى القيصر في رحابها، وعندما أخذ القيصر وجيشه في العودة أمطرهم رجال الكنيسة بوابل من الروث والبراز، قذفا بالمقاليع ... "
ويذكر المؤلف رسالة القيصر للسلطان كدليل على عمق الصلات بينهم وقوة العلاقات فيقول:
"وتصور رسالة الوداع التي كتبها القيصر وهو مبحر على متن سفينته، إلى الأمير – فخر الدين الذي كان ضيفا في بلاطه في صقلية موفدا من قبل السلطان، والذي كان في يافا من قبل يقتسم معه خيمته إبان قيامه بإدارة المباحثات بين العاهلين لإبرام اتفاقية السلام – مدى تعلق القيصر بأصدقائه العرب ...
لويس من قبيل الصدفة أن تلك الرسالة التي كتبها القيصر نفسه باللغة العربية التي تعلمها منذ صغره في موطنه صقلية إلى جانب اللغة اللاتينية – وقد تعلم بعضها من العرب الذين كانوا يعيشون في صقلية – إلى صديقه العربي، أعظم رسالة مؤثرة أبدعتها ريشة القيصر، لأنها وثيقة شخصية فاضت بها نفسه بعد الفراق، فأملت عليه البوح بمكنون العلائق البشرية، مما اعتاد أمثاله كتمانه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أزف الترحال بين أن قلوبنا ... * ... أبت الرحيل ففارقت أجسادنا
وهوت إلى كنف الصداقة عندكم ... * ... مأسورة، ثم استقرت عندنا
لا نريد أن نذكر ما نعاني من لواعج ما نكابد من الجوى، ولا ما يتملكنا من الحزن والأسى، ولا الشوق المستبد إلى ما نفتقده من الصحبة الممتعة والمجالسة المؤنسة للفخر، أطل الله عمره. والمعذرة أننا هنا لم نتمالك أنفسنا ففاضت وأفضت بمكنونها، وكيف ولست سوى رجل يضطرب فيه ما يضطرب، وهو يرى أنه فرد وحيد في هذه الدنيا، يحن إلى ساعات السكينة والصفاء، ولقاء الأصدقاء ... إن أسى الفراق قد أعقب السكينة وبلوغ الأرب، واليأس من التحين لمحادثتنا ... )
ثم يخاطب القيصر صديقه بلفظ المتكلم الفرد، تاركا صيغة الجمع التقليدية التي يتوسل بها جلالته، كاشفا بذلك كل غطاء يحجب ذاته عن صديقه، فيقول: (حينما فارقتني كنت في حالة، لو أن أحدا من البشر خيرني فيها بين البعد عنك أو الموت، لكنت أجبته ضارعا: لبيك؟ جد علي بهذه المكرمة!).
والحق أن موقف القيصر هذا، الذي يزن فيه المرء خصمه ويقدره حق قدره مجردا عن التجني ومشاعر البغضاء، رائيا فيه الإنسان، طالما يستحق أن يتصف بالإنسانية، فيحترمه لذلك؛ إنما هو خصيصة أخلاقيات المحاربين الجيرمان القدامى، ولقد ترسخت تلك الخصيصة وفرضت نفسها صورة قديمة من صور الفروسية خاصة في ألمانيا.
ليس الخيال وحده إذن هو الحافل بالشهادات القيمة في معاملة الخصم معاملة تخلو من التجني الظالم، وتقيمه موضوعيا، وتقدم له ما يستحق من احترام وتقدير، وتتيح للصداقة أن تنمو وتترعرع بين الخصوم.
ونرى الشاعر يرفع صوته معترضا على تعاليم الكنيسة التي تحكم بحياة من عمد أو بموت غير المعمدين، فيقول:
(أليست خطيئة أن المرء هكذا
يذبح البشر الذين لم يأتهم نبأ التعميد
كما تذبح الماشية؟!
بل إنني أعني أن هذه الخطيئة من أشد الكبائر
لأننا جميعا خلق الله؛
كافة الأجناس بألسنتها الاثنتين والسبعين
إنما هو الذي خلقها وسواها)."
ويبين المؤلف أن من شدة عمق الصلات بين الجانبين عبر أحد المشاركين ألأمان عن اعتذاره عن مشاركته فى الحملة الصليبية على دمياط معبرا عن امتنانه عما فعله السلطان الكامل وجنوده باطعام الصليبين يوميا رغم أنهم قتلوا الكثيرين من أهل البلد فقال :
"ومن الشواهد الدالة على هذا الموقف الأخلاقي أن أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية، بعد عودته إلى وطنه على نهر الراين لم يجد بدا من تحرير رسالة إلى سلطان مصر الملك الكامل يعبر فيها عن مشاعره تعبيرا مؤثرا، وقد ترسخت في مخيلته المذابح الفظيعة التي أبيد فيها أهل دمياط بمصر جميعهم، بناءا على أوامر البابا ومبعوثيه الكرادلة ورجالات الكنيسة وذلك بعد الاستيلاء على حصن دمياط بعد حصار طال ...
ولم يكن ذلك الألماني سوى عالم الفلسفة اللاهوتية (أوليفروس) من كولونيا على نهر الراين بألمانيا الذي بهره ما اكتشفه من المروءة والفروسية العربية التي أثبتها في شخصية السلطان الكامل، على الرغم من جميع الأهوال والفظائع التي اعتادها السلطان من قبل النصارى، ولقد سجل ذلك الشاهد ما لمسه بعينه كما لو كان حدثا سعيدا لا يمكن للعقل أن يتصوره، فقام بكتابة الرسالة التالية إلى السلطان الكامل عام 1221 م، والمعروف بصداقته للقيصر فريدريك الثاني، إذ أنه لم يقتص من الصليبيين العين بالعين والسن بالسن وإنما أطعمهم في مسغبتهم أربعة أيام طوالا، مرسلا إلى جيشهم المتضور جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف، ومواد غذائية أخرى، كتب يقول:
(منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود،
خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله ... إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان)."
ويبين المؤلف أمن فى مقابل الإحسان من سلاطين بنى أيوب فإن الكثير من النصارى من الملوك كريتشارد قلب الأسد خان عهده بالحفاظ على الأسرى فذبحهم جميعا رغم تعهده لهم بتأمين حياتهم فقال :
"هنا كان ينبغي أن يقرع ناقوس، وأن تتجاوب لرنين نواقيس أخرى ... وإذا كان عربي قد قدم مثل هذا البرهان على السمو الإنساني والمروءة المتناهية، فإن ذلك ليس بدعا أو حدثا مفردا، فثمة شواهد أخرى في هذا الصدد، ونذكر هنا الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، الذي نشأ في الغرب تنشئة الملوك الشرفاء، فقد مرغ تلك السمعة الطيبة في العار، ودأب على تلويثها بشكل مخز دائما أبدا، فبينما أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أن حياتهم آمنة، إذ هو فجأة منقلب المزاج فيأمر بذبحهم جميعا، ويحذو قائد الجيش الفرنسي حذوه سريعا، وهكذا لطخ بفعلته النكراء، وسفكه تلك الدماء، سمعته إلى الأبد، وضيع ثمرة انتصاره في أذيال الخزي والهوان ...| فى مقابل مقض الكثير من ملوك النصارى لعودهم ومن قيامهم بمذابح أثناء الاستيلاء على الكثير من مناطق الشام فإن صلاح الدين لم يفعل مذابح لهم بالمقابل بعد أن تمكن منهم وفى هذا قال المؤلف:
"وعلى العكس من هذا عرفنا صلاح الدين، الذي أخزى قواد جيوش النصارى، فلم ينتقم قط من أسراهم النصارى الذين كانوا تحت رحمته، ردا على خيانتهم وغدرهم، وفظاعتهم الوحشية التي ليس لها حد.
ولقد أخزاهم صلاح الدين مرة أخرى حين تمكن من استرداد بيت المقدس، التي كان الصليبيون قد انتزعوها منه من قبل، بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة، فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية."
ويبين المؤلف أن الصليبين لم يتورعوا عن ذبح غير المقاتلين فى أثناء حروبهم فذبحوا الكل مسلمين وحتى فى حروبهم بين بعضهم نهبوا الكنائس وباعوا مخلفاتها وفى هذا قال :
"على العكس من المسلمين لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي يفرض عليها أن تسمح لأولئك (الكفار) بممارسة حقوقهم الطبيعية، الأمر الذي يمليه على الأقل حق الجوار ومحبته، كما شعرت تلك الفروسية النصرانية بأنه ليس لزاما عليها أن تلتزم بكلمة الشرف التي تعطيها لغير النصراني.
وحينما سفك فرسان الحملة الصليبية عام 1204 وازداد نهمهم لطول ما حرموا من فريستهم الموعودة، فانقضوا على المدينة الغنية في أسبوع عيد الفصح ... وأتوا فيها من ضروب السلب والنهب ما لم تشهده روما نفسها على أيدي الوندال أو القوط، نعم إنه لم ... يقتل في هذه الحوادث كثيرون من اليونان – فلعل عدد القتلى لم يتجاوز ألفين، أما السلف والنهب فلم ... يقفا عند حد، ووزع الأشراف القصور فيما بينهم واستولوا على ما وجوده فيها من الكنوز، واقتحم الجنود ... البيوت، والكنائس، والحوانيت، واستولوا على كل ما رقهم مما فيها، ولم يكتفوا بتجريد الكناس مما ... تجمع فيها من الذهب والفضة والجواهر، بل جردوها فوق ذلك من المخلفات المقدسة، ثم بيعت هذه ... المخلفات بعدئذ في أوروبا الغبية بأثمان عالية، وعانت كنيسة أيا صوفيا من النهب ما لم تعانه فيما بعد على ... يد الأتراك عام 1453 م."
وحتى الباباوات اشتكوا من شدة أفعال الصليبين المنكرة مع النصرانيات من اغتصاب وزنى بالاكراه وفى هذا قال المؤلف :
" وبذلت محاولات ضئيلة للحد من اغتصاب النساء، وقنع القليلون من الجنود بالعاهرات حتى أن ... إنوسنت الثالث أخذ يشكو من أن شهوات اللاتين المكبوتة لم ينج منها الكبار أو الصغار، ولا الذكور أو ... الإناث، ولا أهل الدنيا أو الدين. فقد أرغمت الراهبات اليونانيات على احتضان الفلاحين أو السائسين ... البنادقة والفرنسيين. وبددت في أثناء هذا السلب والنهب محتويات دور الكتب وأتلفت المخطوطات الثمينة ... أو فقدت، واندلعت ألسنة النيران بعدئذ مرتين في المدينة فالتهمت دور الكتب والمتاحف، وسرقت آلاف ... من روائع الفن أو شوهت أو أتلفت.
حتى دم إخوانهم من النصارى في بيزنطة، أخذ نيكتاس أكوميناتوس يبكي مصارعهم قائلا: (بل إن محاربي المسلمين الأعداء أنفسهم، رحماء طيبون، قياسا إلى أولئك القوم، الذين يحملون صليب المسيح على أكتافهم)
وأنهى المؤلف مقالته بالعبارة التالية:
"والحق أن الفروق الحاسمة في التعامل مع أتباع الملة الأخرى راسخة في تفهم كل من الإسلام والنصرانية لطبيعته وفي اختلاف تفهم كل منهما للبشر."
ومع أنى لا أصدق معظم التاريخ فإن الحملات الصليبية ما زالت آثارها موجودة فى المنطقة فى صور مختلفة أهمها الجمعات التى تعتنق مذاهب نصرانية كالمارون أو تعتنق أديان جديدة كالنصيرية والدروز والأهم توزيع عائلات نصرانية وعلى أديان اخرى فى بلادنا المختلفة هى من يحكم أولادها حاليا بلادنا بأسماء المسلمين أو من خلال بناتهم أزواج الحكام وغالبا من يرى وجوه حكام أو زعماء كعائلة للأسد وأولاده وأولاد جنبلاط وحتى بعض رؤساء تونس والجزائر وزعماء المعارضة فى بلاد مختلفة سيتبين له الشبه بينهم وبين النبلاء الفرنسيس وبالطبع من ذكرناه من البلاد لا يعنى أنهم غير موجودين فى بقية البلاد ولكن تلك الحملات أبقت العديد من أسرها فى بلادنا وطلبت منهم إعلان إسلامهم مع بقائهم فى الولاء للغرب وهناك عائلات معروفة فى كل قطر وهى من تتحكم فى اقتصاديات كل قطر والغريب أنهم لا يعلنون أنهم من جنسيات الصليب وإنما ينسبون للترك فى الغالب