رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,704
- الإقامة
- مصر
نظرات فى كتاب الحكم بقطع يد السارق في الشريعة الإسلامية
الكتاب من تأليف أحمد عبيد الكبيسي وفى مقدمته قال إن عقوبة السرقة عقوبة النص فيها واضح فلا يمكن الاعتراض عليه وهذا قوله:
"السرقة: من الجرائم التي توافرت النصوص من الكتاب والسنة على تجريم فعلها وتحديد العقوبة عليها تحديدا دقيقا، ليس لأحد الحق – إذا ما ثبت موجبها – أن يزيد فيها أو ينقص منها، أو يستبدل بها غيرها ولهذه المعاني قال الفقهاء في تعريف الحد عقوبة مقدرة حقا لله تعالى "
والسرقة عندى يقصد بها أخذ مال الغير دون حق وبعلم أو بدون علم صاحب المال ويستوى فى هذا الأخذ سرا أو علنا ويعاقب السارق أو السارقة بقطع الأيدى مصداق لقوله تعالى بسورة المائدة:
"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "
ويقصد باليد الكف مصداق لقوله تعالى بسورة المائدة:
"وأيديكم إلى المرافق "الذى معناه وأكفكم حتى منتصف الأذرع ،وفى اجتهادى تقطع اليدين معا لقوله "أيديهما " ولو كانت يد واحدة لكان القول يديهما والرأى المشهور تقطع اليد اليمنى ومن يعود للسرقة بعد قطع يده اليمنى يقطع كفه الأيسر ولا يجوز إعادة الكف للسارق بعملية جراحية لأن هذا يمنع النكال – وكذلك فى باقى عقوبات القطع -وهو العقاب من الاستمرار الذى قرره الله بقوله فى نفس آية السرقة "جزاء بما كسبا نكالا من الله " ويدخل ضمن السرقة كل الجرائم المالية مثل الرشوة والاختلاس ورفض سداد الدين وخيانة الأمانة والغش فى المال بكل صوره والميسر والنصب والاحتيال المالى وأكل مال اليتيم ظلما ومنع الصدقات وهى الزكاة ويستثنى من جرائم المال جريمة واحدة هى جريمة اتلاف المال فهى تخالف كل هذا فى أن السرقة فيها أخذ للمال بينما المتلف لا يأخذ شىء من مال الغير .
وتحدث الكبيسى عن حكمه العقوبة والمراد أسبابها فقال:
"حكمة تحديد عقوبة السرقة:
اتجهت الشريعة الإسلامية – في هذه الجريمة – إلى حماية الجماعة، وأهملت شأن المجرم فشددت العقوبة عليه وجعلتها مقدرة محددة، من أجل القضاء على ما يتهدد الناس في أموالهم وما يتبع ذلك من إذلال وإرغام، فأحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية غاية الأحكام وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم مجاوزة ما يستحقه الجاني من العقاب فلا بد أن يكون العقاب مكافئا للجريمة، ولا يتسنى تقدير ذلك إلا لله العليم الخبير
ولو ترك تقدير العقوبة على السرقة إلى اجتهاد مجتهد، أو نظر حاكم، أو رأي جماعة، لأدى ذلك إلى تناقض لا تؤمن عاقبته، ولا يضمن معه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أمانا من الظلم والقهر فكان من رحمة الله – سبحانه وتعالى – أن تكفل هو بتقدير العقوبات على الخطير من الجرائم وترك للناس تقدير غيرها من العقوبات: مما لا يترتب على تقديرها منهم أذى أو فساد وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: "فلما تفاوتت مراتب الجنايات، ولم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين مؤونة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه وقدرته ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، وما يليق بها من النكال" "
القول بأن الشريعة الإسلامية اتجهت إلى حماية الجماعة، وأهملت شأن المجرم هو كلام خاطىء فالشريعة تحمى الكل حتى المجرم ومن ثم فمرتكب الجريمة قد لا يكون مجرما إلا عند الناس وهو عند الله برىء والمجرم هو غيره فمثلا الحكام الذين يوزعون الأموال على غير عدل الله فيعطون البعض فوقا كفايتهم ويعطون البعض الفتات وهو تحت الكفاية هم المجرمون عندما يقوم بعض من يأخذون الفتات بأخذ بغض حقهم عن طريق ما يسمونه السرقة بينما هو فى الأصل أخذ حق فشروط توقيع العقوبة هنا :
-أن يكون لدى السارق ما يكفيه وأسرته
-ألا يكون لدى السارق دافع ضرورى كالجوع أو علاج مرض
وتعرض الكبيسى لشدة العقوبة فقال:
"حكمة الشدة في عقوبة السرقة:
من الواضح أن الشارع الحكيم لا حظ في عقوبة السرقة أن تكون شديدة قاسية إذ أن قطع يد السارق بربع دينار عقوبة شديدة تنخلع لها القلوب وقد كان هذه الشدة مرتكزا للمغرضين – على مدى الأيام – في نيلهم من الشريعة الإسلامية ومن حسنت نيته منهم: كان مرددا لأصداء ما يقال عنها، دون نظر سديد في موجبات هذه الشدة والحكمة فيها واضحة جلية فإنه لما كان الإسلام معنيا بتوفير الحياة الكريمة والعيش المطمئن لكل الناس كان لا بد من حماية الفضيلة بالقضاء على الرذيلة والفساد، وكل ما من شأنه أن يدنس واجهة الجماعة التي أراد لها الإسلام: أن تكون نقية ناصعة والغاية السليمة تبرر الوسيلة الحازمة ولو كانت شديدة قاسية لأن القسوة ليست شرا في كل أحوالها فإن من لا يراعي مصلحة الآخرين، ليس له أن يطمع في أن تراعى مصلحته ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الشرع لأن في الرحمة بالجاني – حينئذ – قسوة على المجتمع والعدل كل العدل في أن يعاقب من يستحق العذاب وليس أجدر بالعقاب، من ذلك النوع من المجرمين الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء – كالسرقة – لما في خفائها من رهبة شديدة في نفوس الناس وقد بين الله – سبحانه وتعالى – سببين للشدة، في عقوبة السرقة فقال: {جزاء بما كسبا نكالا} "
وكلام الكبيسلا صحيح هنا فما دام المجتمع عادل وفر لكل فرد حاجاته أو يعانى الكل من نفس الشىء فالعقوبة يجب أن تكون شديدة لأنها تعدم العدل حيث يأخذ السارق جزء من نصيب ال×رين وهو ليس من حقه فهو ى يظبم واحد وإنما يظلم المجتمع كله لأنه يبدأ دائرة الظلم فالمسروق لكى يكفى نفسه سيضطر لارتكاب جريمة قد تكون السرقة او تكون كما هو حادث الآن المعلم المظلوم يعطى دروسا خصوصية والطبيب المظلوم يكشف على المرضى كشوفا خصوصية ومن ثم يضطر ولى أمر التلميذ أو المريض أو وليه إلى رفع أسعار ما يعمله فيه إن كان سباكا او نجارا أو غير ذلك ومن ثم تبدأ دائرة لا تنتهى من الظلم وهو ما نحن فيه حاليا
وتناول الكبيسى معنى الجزاء فقال :
"معنى الجزاء:
أما الجزاء فمعناه أن العقوبة مكافئة للجريمة مساوية لها، موافقة لآثارها أي أن العقوبة: إنما هي على الجريمة بكل الآثار الناتجة عنها، والأضرار المترتبة عليها مما لا يقف عند حد أخذ المال المسروق بل يتعدى ذلك إلى ما تحدثه السرقة من ترويع وإفزاع وليس أدل على ذلك من حادثة سرقة واحدة، تقع في حي، أو قرية، نرى معها أي ذعر يعيش فيه الناس، لما أصبح معلوما: أن السارق لا يتورع عن اقتراف كل ما يخطر له في سبيل تحقيق مأربه حتى أصبحت حوادث القتل لأجل السرقة من المألوف الشائع فإن طبيعة السارق موسومة بالشراهة والنهم وليس بين السارق وبين الناس إلا ما بين الذئب وفريسته لا يهمه منها إلا نهشها من أي طرف فمن أجل هذه النتائج المفزعة، كانت الشدة في العقوبة لأن الشارع بين أمرين: إما أن يردع الآثم، وإما أن يفزع الآمن، وليس من عدل الله ورحمته إلا ردع الآثم وزجره بعقوبة تكافئ جرمه، نالها جزاء لذلك الجرم ولهذا السبب لم تقطع يد الغاصب والمنتهب والخائن - مع أن هذه الجرائم وقعت على مال الغير، كالسرقة – إلا أنه ليس فيها من الإفزاع ما في السرقة لأنها تقع في العلن وليس فيه من الرهبة والإذلال مثل ما في الخفاء وفي ذلك يقول المازري :
"صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغضب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة، بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع به حماية لليد ثم لما خانت هانت" ومما يدل على أن الله – سبحانه وتعالى – رتب العقوبة على ما تشيعه السرقة من خوف واضطراب، وليس على ذات المال المسروق: أن قطع اليد يعاقب به السارق إذا سرق ربع دينار والسارق إذا سرق ألف دينار ولو كان القطع على ذات الفعل، لتفاوتت العقوبة في هذا وذاك وكما يقول العز بن عبد السلام : "إن السرقتين: استويتا في المفسدتين" وما ذلك إلا بأثرهما على الجماعة وإلا فإنه لا وجه لتساويهما كما هو ظاهر"
استهل الكبيسى الفقرة بكلام صحيح ثم أدخلنا فى متاهة لا علاقة لها بمعنى الجزاء وهى علاقة الجرائم الاقتصادية بالسرقة والحقيقة أن كل أخذ مال دون وجه حق هو سرقة سواء كان فى الخفاء أو فى العلن
ثم بين الرجل معنى النكال فقال:
"معنى النكال:
وأما النكال فهو منع الغير من ارتكاب السرقة اعتبارا بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم وقد جاء في اللسان – في كلمة نكل – قوله : "نكل بفلان: إذا صنع به صنيعا يحذر منه غيره إذا رآه" ومنه قوله تعالى: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها} أي عبرة ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة، وأجدى لتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم
ولعل من أبسط نتائج هذا النكال: أن عقوبة السرقة – القطع – لم تطبق في خلال نحو قرنين من الزمن إلا في أيد أقل من القليل ولم يتحقق ذلك إلا بشدة العقاب فكانت الشدة والقسوة سببا لصيانة الأيدي وطهارة النفوس وكلما أشتد العقاب، قوى المنع وفي ذلك يقول ابن القيم: "ومن المعلوم: أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته" ويقول ابن عبد السلام: "من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق فإنه إفساد لها، ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق" ومن هنا شاع الفساد وعمت الفوضى، عندما شاء الله لهذه الشريعة أن تحتجب بعض الوقت لحكمة يعلمها فخلفتها القوانين الوضعية التي تجمع في باب واحد بين السرقة وقطع الطريق، وتتساهل في كلتا الحالتين إلى حد اعتبار السرقات المعتادة من قبيل الجنح البسيطة ففتحوا على المجتمع أبواب شرور لا تتناهى فأصبحت جرائم السرقة في مجتمع الوضعيين، من الجرائم المسلم بوقوعها على كثرة تنذر بالخطر المروع، حتى فر الناس خوفا وذعرا من سكنى الأطراف، ولم يأمنوا مع ذلك – وهم في قلب المدينة الكبيرة – أما القرى النائية، والطرق العمومية، والمرتفعات الجبلية، فلا تسأل عما يبتلى به الناس من تسليط عتاة المجرمين المتمردين لأنهم تحاقروا العقوبة على أخطر جريمة "
معنى النكال هنا الانتقام فالله ينتقم ممن يفسد العدل بقطع يديه وهو انتقام عادل وأما كون العقوبة الشديدة تردع الغير فهذا كلام غير صحيح فالعقوبات مهما بلغت شدتها لا تمنع ظهور المجرمين مرة أخرى فالمانع هو إرادة النفوس وبيس شدة العقوبة وأمامنا قوم فرعون عندما عاقبهم الله مرة بالسنين ونقص الثمرات فقال" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون" ومع هذا لم يرتدعوا فعاقبهم بما هو أشد وهو الآيات الخمس فقال "وأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين" ومع شدة تلك العقوبات فغنهم لم يرتدعوا ولم يستجيبوا كما قال تعالى "فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون"
وتعرض الرجل مرة أخرى لحكمة قطع اليد فقال :
"حكمة العقاب بقطع اليد:
كانت عقوبة السارق: قطع يده، دون غيرها من العقوبات لأجل المناسبة بين الجريمة والعقوبة وكان الشارع الحكيم قصد بذلك إلى إتلاف آلة الجريمة
وكما يقول ابن القيم: "أما القطع فجعله عقوبة السارق فكانت عقوبة به أبلغ وأردع من عقوبة الجلد ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم" ويقول: "ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران" ولهذا يقال: "وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه فعوقب السارق بقطع يده قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة" ونجاري ابن القيم في طريقته في التحليل، فنقول: إن السارق – عادة لا يطلب من جريمته غير المال إما ما ينتج عن السرقة من قتل أو اغتصاب فإنما هو تابع لا مقصود ولهذا الاعتبار جاءت العقوبة: قطع اليد للقضاء على هذا الدفاع في نفسه لأن قطع اليد يؤدي – غالبا- إلى نقص الرزق وقلة الكسب فتكون الشريعة الإسلامية قد دفعت العامل النفسي عند السارق، بعامل نفسي مضاد وقد يرد على هذا: لزوم قطع آلة الزنا والقذف، وليس هو حكم الشريعة فنقول: إن هذا الإيراد مدفوع بأن فيه إسرافا وتجاوزا ونكوصا عن أهداف العقوبة المرسومة إذ ليس من مقصود الشارع من العقوبة مجرد الأمن من عدم المعاودة وإلا لقتل السارق وإنما المقصود الزجر والنكال وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، ولم تقطع آلة الزنا لأن الزاني يزني بجميع بدنه والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن كله فعوقب بما يعم جميع بدنه من الجلد والرجم
وفي ذلك يقول النسفي: "وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفاديا من قطع النسل" وزاد القرطبي على هذا الذي ذكره النسفي سببين آخرين "الأول: للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره وقطع اليد في السرقة ظاهر وقطع الذكر في الزنا باطن" "
ما نقله الكبيسى هنا مناقض للفهم فقطع اليد ليس لأنهما سرقتا لأن السرقة وهى أخذ المال دون حق تتم بعملية تشترك فيها النفس التى تخطط وتدبر وأحيانا تنفذ اليد وأحيانا تكون العملية دون أن تمسك اليد شىء عن طريق استئجار محرمين أو عن طريق آلة وأحيانا تتم العملية بطرق كثيرة كرشوة الحكام أو قتل صاحب الحق أو تزوير ورق
قطع اليد هو عقاب طلبه الله كعقاب عادل والغريب أنه هناك رواية تقول أن سارق بعد قطع يديه سرق فقطعوا رجله فالقطع ليس لأن اليد تفقبض المال وإنما هو العقاب المناسب عند الله
وتحدث الكبيسى عن أن الله هو فقط من يكيف العقاب وتحدث عمن أراد أن يفير نوع العقوبة وأدلتهم فقال:
"لا سلطة لغير الشارع في تكييف عقوبة السرقة:
قلنا إن عقوبة السرقة تثبت بالنص فلا يجوز تغييرها، أو تبديلها، أو إسقاطها، وليس للزمان، أو المكان أثر في ذلك
رأي المجوزين:
إلا أن بعض الباحثين ، ذهبوا إلى جواز إلغاء عقوبة السرقة أو تبديلها بعقوبة أخرى، تبعا لتغير الأزمان والأحوال وعلى هذا فإن لولي الأمر، الحق في تكييف عقوبة السرقة حسب الظروف والمقتضيات وهؤلاء الباحثون – ومن وافقهم – على اصل: جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة، يقرها اجتهاد حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسنة وقد استدلوا على ذلك ببعض ما لا تقوم لهم به حجة وبشيء من النظر الخاص كما يظهر ذلك من نصوصهم التالية:
يقول بعض الكاتبين: "إن العمل بمبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان تؤيده الأصول المتفق عليها، وهي: أن التشريع لا يكون حكيما عادلا إلا إذا كانت أحكامه ملائمة من شرع لهم متفقة ومصالحهم، وما تقتضيه بيئتهم وأن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة، ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى، ويعارض مصالحها بل أحكام التشريع الواحد قد تكون ملائمة للأمة ومتفقة ومصالحها في حين غير ملائمة لها ولا متفقة ومصالحها في حين آخر ثم يستطرد قائلا: "وهذه أصول تكاد تكون بديهية غير مفتقرة إلى برهان وأصدق شاهد لها: نسخ بعض الأحكام الشرعية ببعض في التشريع"
ويستشهد هذا الكاتب بابن القيم فيقول: "ولقد كتب في ذلك العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه – إعلام الموقعين – فصولا ممتعة وقال – تحت عنوان، فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد -: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسببه غلط عظيم على الشريعة الإسلامية، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم: أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل"
ويقول كاتب آخر: "ولم يقطع عمر يد سارق أو سارقة في عام المجاعة لأنه رأى أن هذه السرقة كانت لحفظ الحياة وحفظ الحياة مقدم على حفظ المال هذا، مع أن آية حد السرقة صريحة في الأمر بقطع يد السارق والسارقة دون قيد"
ونقف قليلا عند قول هذا الكاتب: دون قيد لنقول له: لا إن الآية صريحة في قطع يد السارق ولكن بقيد، وهو النصاب والحرز وغيرهما من القيود التي جاءت بها السنة المطهرة والتي خصصت عموم الآية ومن القيود – أيضا -: أن لا تكون السرقة لضرورة حفظ الحياة لأن المضطر مأذون بالأخذ فلا يكون سارقا وإذا لم يكن سارقا، فكيف يقطعه عمر؟
وقول كاتب ثالث: "إذا استعرضنا ما قدمنا من الفروع المأثورة في رعاية المصلحة، وجدنا منها ما اعتبرت فيه المصلحة مع معارضتها للكتاب أو السنة أو القياس فمن الأول: إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم وذلك معرض لقوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} ومنه إسقاط حد السرقة عام المجاعة محافظة على الأنفس وذلك معارض لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}
ويقول أحد هؤلاء - أيضا -: "وكان في مقدمة من فتح هذا الباب للمجتهدين عمر بن الخطاب وذلك في حوادث متعددة ومن هذا القبيل: اجتهاد عمر عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين، وهو قطع اليد واكتفاؤه بتعزير السارق عن قطع يده معتبرا: أن السرقة ربما كان يندفع إليها السارقون – حينذاك – بدافع الضرورة، لا بدافع الإجرام وفي هذا كما ترى تغيير لحكم السرقة – الثابت بنص القرآن عملا بتغيير الظروف التي أحاطت بالسرقة"
جواز إسقاط الأحكام
وخلاصة الأمر: فإن هؤلاء يستدلون على جواز إسقاط الأحكام أو تغيرها بما يلي:
- بالنسخ الواقع في الشريعة الإسلامية فإنه تغيير للحكم
- بالإجماع على إسقاط حق المؤلفة قلوبهم في زمن عمر بن الخطاب
- برأي ابن القيم في جواز تغير الفتوى بتغير الظروف
- بفعل عمر بن الخطاب في إسقاط عقوبة السرقة عام المجاعة "
وقد رد الكبيسى على هذه الأقوال فقال :
"ونتكلم عن هذه الأدلة فنقول:
"استدلالهم بالنسخ:
أولا: إن أخذهم بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها غير مسلم فإن وقوع النسخ في القرآن، لا يدل من قريب، أو بعيد على صحة دعواهم، لأن النسخ – كما هو عند الأصوليين – رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه فشرط جواز نسخ الحكم الشرعي: أن يكون ناسخة حكما شرعيا مثله متأخرا عنه والحكم الشرعي الذي يجوز النسخ به، هو ما جاء في كتاب، أو سنة ولا يجوز النسخ بغيرهما فلا ينسخه القياس لأن شرط القياس: التعدي إلى فرع لا نص فيه كما لا ينسخه الإجماع لأنه إن كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسخه السنة وليس الإجماع وإن كان بعد وفاته فلا نسخ حينئذ لأن الأحكام صارت مؤبدة بانقطاع الوحي على أن من الفقهاء من لا يجيز نسخ الكتاب بالسنة فضلا عن عدم جواز نسخها بالإجماع استدلالا بقوله تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} على خلاف في ذلك نجده مبسوطا في كتب الأصول
وهكذا نرى: أنه لا حجة في وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية على دعواهم: جواز تغيير الأحكام وإسقاطها لأن التغيير والإسقاط من غير رسول الله (ص)لا يتوفر له نص شرعي يجوزه والتغيير والإسقاط بغير نص شرعي ممنوع
ثانيا: أما استدلالهم بالإجماع الواقع في زمن عمر على إسقاط نصيب المؤلفة قلوبهم فلا حجة لهم به – أيضا – لأن عمر لم يسقط حكما ولم يعطل نصا فإن عدم تطبيق النص، أو عدم تنفيذه لا يلزم منه إسقاطه أو تغييره وإنما كان ذلك لانعدام محله، وعدم موجبه
فإن الله – سبحانه وتعالى – أمر بجلد الزاني، وقد لا ينفذ هذا الحكم مرة واحدة لعدم وجود الزاني، ولا يصح مع ذلك القول: بأن حكما قد سقط، أو نصا قد عطل وهكذا: في مسألة المؤلفة قلوبهم فإنه لا نصيب للمؤلفة قلوبهم عند عدم وجود فريق من الناس يطلق عليهم هذا الاسم فلا محل – والحالة هذه – لنصيبهم الذي نصت عليه الآية، ولا فرق بينهم وبين ابن السبيل مثلا في احتمال عدم وجوده وعند عدم وجوده لا يتعلق به حكم كما هو معرف وكذلك الغارم والعامل وغيرهما وهذا هو ما وقع في زمن عمر فإن المؤلفة قلوبهم لا يوجدون إلا إذا تألفهم الإسلام وهو لا يتألفهم إلا إذا كان بحاجة إلى ذلك فإذا انتفت الحاجة، لم يعد هناك من يتأليفه فرأى أمير المؤمنين: انتفاء الحاجة إلى تآلف قلوب الأعداء بعد أن أصبح الإسلام ذا قوة وشوكة فإعطاء المؤلفة قلوبهم –حينئذ- اعتراف غير صحيح بحاجة الإسلام إلى كف شر هؤلاء عن الإسلام الذي لم يعد بحاجة إلى ذلك
وعمر –نفسه- لا يخالف في وجوب دفع أنصبتهم لو دعت الحاجة إليه، أو كان أمر الدولة الإسلامية في حال لا يستقيم معه أمرها إلا بذلك ففعل عمر ليس اجتهادا أدى إلى تعطيل النص أو إسقاطه وإنما هو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم ومعلوم أن الاجتهاد المتعلق بتحقيق مناط الحكم لا علاقة له بأمر النص وإنما هو استجلاء لحقائق الأشياء، وإدراكها على ما هي عليه لتعلق حكم شرعي بها كاستجلاء حقيقة البلوغ في الصبي
وفعل عمر -رضي الله عنه- إنما هو تطبيق لموجبات النص، واعتبار لعلته، لأن إعطاء المؤلفة قلوبهم: معلل بحاجة الدعوة الإسلامية لذلك وعندما يشتد ساعد المسلمين وتنعدم حاجتهم إلى تآلف قلوب الأعداء حينئذ تنتفي الحاجة إلى شراء تأييد هؤلاء وكف شرهم بالمال لأن للمسلمين أكثر من وسيلة لكف الأذى عن أنفسهم وعقيدتهم
ومن أجل هذا يقول الأصوليون: إن حكم عمر هذا الذي وافق إجماع المسلمين هو من قبيل: انتهاء الحكم لانتهاء العلة وليس نسخا للحكم لأن الإجماع لا ينسخ النص بل إن الجمهور على أن الإجماع ينسخ الإجماع فما بالك بالنص
استدلالهم بقول ابن القيم
ثالثا: إما استشهادهم بما قاله ابن القيم، فليس له أساس إلا سوء الفهم فمع التسليم بكل ما جاء على لسان ابن القيم جملة وتفصيلا فإنا لا نسلم بفهم الكاتب –المشار إليه- لما قاله ابن القيم ذاك أنه اقتطع بعضا من كلامه، الذي لا يستقيم معناه إلا بضم بعض أجزائه إلى بعض
ففي مسألة: (المصلحة أصل الأحكام في الشريعة) استعراض ابن القيم بعض المسائل التي قد يتوهم: أن فيها معارضة للنص، أو تغييرا للحكم، وإسقاطا للعقوبة، تبعا لاختلاف الفتوى فيها، واختلاف فقهاء الصحابة في كيفية تطبيق النصوص عليها فأوضح الخفاء في وجوه تلك المسائل، وبين: أن ما تظنه بعض الإفهام تناقضا، ليس هو كذلك في الواقع وما تتوهمه إسقاطا، أو تصرفا في نص، إنما هو في دقة تنفيذه في الحقيقة
وقد ضرب ابن القيم لذلك بعض الشواهد، فوفق بين قوله –عليه الصلاة والسلام-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" وبين قوله: "من رأى من أميره ما يكره فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعة" وبين ابن القيم وجه تعطيل الحد في السفر (حين أتى برجل من الغزاة قد سرق فلم يقطعه بسر بن أرطأة) ويرى ابن القيم أن ذلك لم يكن تعطيلا للحد، أو تغييرا للحكم، أو إسقاطا للعقوبة كما قد يتوهم المتوهمون وإنما كان ذلك تطبيقا للنص من بعض وجوهه فقد نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أن تقطع الأيدي في السفر والغزو، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تأخيره بأن يلحق صاحبه بالمشركين"
ثم ذكر ابن القيم، قصة أبي محجن: حين شرب الخمر يوم القادسية، فلما أبلى في القتال بلاء حسنا لم يقم سعد ابن أبي وقاص عليه الحد، "لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله" ثم عقب ابن القيم على ذلك كله فقال: "وليس في هذا ما يخالف نصا، ولا قياسا، ولا قاعدة من قواعد الشرع، ولا إجماعا" "وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض"
هذا هو مجمل كلام ابن القيم: لا نرى فيه جانبا واحدا يدل على: أنه قصد –فيما قال- إلى جواز تغيير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال بل على العكس من ذلك فقد كان دأبه في كل ما ذكره: إزالة اللبس عما يمكن أن يعد من هذا القبيل
فلا ندري: كيف فهم هذا الكاتب –من كلام ابن القيم- ما فهم إلا أن يكون قد خدع بالعنوان الذي أدرج ابن القيم كلامه تحته فقد كان (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغيير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) ففهم من عبارة (تغير الفتوى) تغير الحكم وليس الأمر كذلك فإن الفتوى غير الحكم وإنما هي بيانه، وكيفية تطبيقه على المسألة ولا يختلف الأمر في هذه المسألة –التي سردها ابن القيم- عن الصيام في رمضان مثلا فإن حكمه هو الوجوب ولكن يفتى بإسقاطه عن الحامل المرضع ولا يقال –حينئذ- بأن حكما قد أسقط، أو بدل، أو عطل وإنما هو تطبيق له من وجه آخر
استدلالهم بعمر
رابعا: أما استدلالهم بما فعله، عمر عام الرمادة حين عطل حد السرقة –على حد زعمهم- حيث اعتبروا عدم قطع عمر لغلمان حاطب بن أبي بلتعة- لما سرقوا: تصرفا في النص وتعطيلا للحد-: فهو استدلال مرفوض لأن ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما هو إلا: محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة الغراء- التي جعلت لكل حكم علة وشروطا يدور الحكم معها وجودا وعدما فإن آية السرقة: ليست نصا بالمعنى المقابل للظاهر بل هي عام قابل للتخصيص فهي لا تستعمل وحدها بالدلالة على حكم السرقة بالتفصيل قبل البحث عن المخصصات وإذا فالتمسك بظاهر الآية وحدها دون النظر إلى ما يتعلق بها من مخصصات في السنة الصحيحة، إنما هو تنكب عن جملة الدليل وقد خصصت السنة الصحيحة –كما ذكرنا في أكثر من مكان- كثيرا من آخذي مال الغير فلم تعتبرهم سراقا بالمعنى الذي تقطع به يد السارق كآخذ الشيء التافه وآخذ الثمر والكثر، والآخذ من غير حرز وآخذ ما دون النصاب وغير ذلك
ومن هذا القبيل –أيضا- من يأخذ مال الغير بدون حق، للضرورة وكأن تكون السنة سنة مجاعة وشدة بحيث يغلب على الناس الحاجة الملحة لحفظ الحياة فحينئذ يكون المظنون الغالب: أن لا يسلم سارق من ضرورة تدعوه إلى الحصول على ما يسد به رمقه مما يجعل المالكين بحال يجب معها البذل والعطاء بالثمن، أو بدونه على خلاف في ذلك والناس أرجح
فإذا سرق السارق في هذه الحالة خرج عن مدلول قوله تعالى: {والسارق والسارقة} وإلى هذا أشار أمير المؤمنين حين قال لحاطب بن أبي بلتعة: "إنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له" فهل من قواعد الشريعة الإسلامية: أن تقطع أيديهم بعد ذاك؟ والضرورات تبيح المحظورات ثم إن شبهة الضرورة في هذا المكان أقوى من كثير من الشبه التي جعلها الفقهاء سببا لدرء الحد مثل كون المال المسروق مما يتسارع إليه الفساد، أو ادعاء السارق ملكية الشيء المسروق دون حجة قائمة، وغير ذلك من الشبه الضعيفة التي لا تعد شيئا إلى جانب هذه الشبهة القوية التي ألجأت الإمام العادل إلى درء القطع عن غلمان حاطب لولا ذلك لقطعهم كما صرح هو بذلك حين قال: "لولا أعلم أنكم تجيعوهم لقطعت أيديهم" لأن الجائع مأخوذ مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد به رمقه ويحفظ عليه الحياة ثم إنه على فرض التسليم: بأن ما فعله عمر بن الخطاب كان تغيير للحكم، وإسقاطا للعقوبة فليس فيه دليل على جواز ذلك لأنه ليس فيمن دون رسول الله (ص)حجة وهذا أصل يقره عمر بن الخطاب نفسه فيما رواه ابن وهب عن يونس ابن يزيد عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: وهو على المنبر: "يا أيها الناس، إن الرأي: إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصيبا، إن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف"
ومن ذلك ما أخرجه البيهقي، من طريق الثوري بالسند إلى مسروق، قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب، فذكر في آخر كتابه: "هذا ما أرى الله، أمير المؤمنين عمر فانتهره وقال: لا بل أكتب: هذا ما رأى عمر فإن كان صوابا: فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر"
ويقول –رضي الله عنه-: "السنة ما سنه الله ورسوله (ص)ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة"
خامسا: أما قولهم: "إن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى ويعارض مصالحها" فهذا ما نستعيذ بالله من شر خطراته على الذهن فإن هذه السمة، إن انطبقت على أحكام الشرائع الوضعية التي جبلت بضعف البشر، وقصر النظر، وضيق المدارك، فإنها أبعد ما تكون عن شريعة الله التي أحكم نسجها،وشهد بكمالها فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} وأقرها لكل زمان ومكان فقال –مخاطبا رسوله الكريم-: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}
وإن من أبسط الفروق بين الشرائع السماوية والوضعية هو: "أن التشريع السماوي من الله سبحانه وتعالى، وهو محيط بكل ما دق وخفي من شئون عباده يكون مستوفيا لما يعنيهم من وجوه المصالح التي يعلمها الله لهم حتى ينتهي الأمد الذي قدر لهذا التشريع بخلاف النظام الوضعي فإنه من عمل الواضعين من ذوي السلطة في الجماعة وليس من شك في أن الواضع يتأثر في تكوينه وفي عمله بالعوامل الاجتماعية، كالعرف والعادة والبيئة وأن تلك العوامل عرضة للتغيير فلا يكون القانون الذي وضعه الواضع في هذه الحالة ملائما لحالة أخرى"
والله -سبحانه وتعالى –حينما حكم بالقطع على السارق: لم يكن ليخفى على علمه، ما سوف يستجد من اختلاف الظروف والأحوال، ولو شاء لغير عقوبة القطع بعقوبة أخرى
أما وقد تم التشريع الإسلامي، وأكمل الله دينه –وعقوبة السرقة على حالها- فليس لا حد: أن يدعي أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب عن علم الله –تنزه ذكره- ومن شقي بادعاء ذلك فليسمع قوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} "
وكلام الكبيسى فى رد أدلة القوم صحيح فالنص لا يستبدل برأى بشرى بل بنص مثله والأحكام لا يتم تغييرها لأن أحكام الله راعت كل الجوانب
الكتاب من تأليف أحمد عبيد الكبيسي وفى مقدمته قال إن عقوبة السرقة عقوبة النص فيها واضح فلا يمكن الاعتراض عليه وهذا قوله:
"السرقة: من الجرائم التي توافرت النصوص من الكتاب والسنة على تجريم فعلها وتحديد العقوبة عليها تحديدا دقيقا، ليس لأحد الحق – إذا ما ثبت موجبها – أن يزيد فيها أو ينقص منها، أو يستبدل بها غيرها ولهذه المعاني قال الفقهاء في تعريف الحد عقوبة مقدرة حقا لله تعالى "
والسرقة عندى يقصد بها أخذ مال الغير دون حق وبعلم أو بدون علم صاحب المال ويستوى فى هذا الأخذ سرا أو علنا ويعاقب السارق أو السارقة بقطع الأيدى مصداق لقوله تعالى بسورة المائدة:
"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "
ويقصد باليد الكف مصداق لقوله تعالى بسورة المائدة:
"وأيديكم إلى المرافق "الذى معناه وأكفكم حتى منتصف الأذرع ،وفى اجتهادى تقطع اليدين معا لقوله "أيديهما " ولو كانت يد واحدة لكان القول يديهما والرأى المشهور تقطع اليد اليمنى ومن يعود للسرقة بعد قطع يده اليمنى يقطع كفه الأيسر ولا يجوز إعادة الكف للسارق بعملية جراحية لأن هذا يمنع النكال – وكذلك فى باقى عقوبات القطع -وهو العقاب من الاستمرار الذى قرره الله بقوله فى نفس آية السرقة "جزاء بما كسبا نكالا من الله " ويدخل ضمن السرقة كل الجرائم المالية مثل الرشوة والاختلاس ورفض سداد الدين وخيانة الأمانة والغش فى المال بكل صوره والميسر والنصب والاحتيال المالى وأكل مال اليتيم ظلما ومنع الصدقات وهى الزكاة ويستثنى من جرائم المال جريمة واحدة هى جريمة اتلاف المال فهى تخالف كل هذا فى أن السرقة فيها أخذ للمال بينما المتلف لا يأخذ شىء من مال الغير .
وتحدث الكبيسى عن حكمه العقوبة والمراد أسبابها فقال:
"حكمة تحديد عقوبة السرقة:
اتجهت الشريعة الإسلامية – في هذه الجريمة – إلى حماية الجماعة، وأهملت شأن المجرم فشددت العقوبة عليه وجعلتها مقدرة محددة، من أجل القضاء على ما يتهدد الناس في أموالهم وما يتبع ذلك من إذلال وإرغام، فأحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية غاية الأحكام وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم مجاوزة ما يستحقه الجاني من العقاب فلا بد أن يكون العقاب مكافئا للجريمة، ولا يتسنى تقدير ذلك إلا لله العليم الخبير
ولو ترك تقدير العقوبة على السرقة إلى اجتهاد مجتهد، أو نظر حاكم، أو رأي جماعة، لأدى ذلك إلى تناقض لا تؤمن عاقبته، ولا يضمن معه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أمانا من الظلم والقهر فكان من رحمة الله – سبحانه وتعالى – أن تكفل هو بتقدير العقوبات على الخطير من الجرائم وترك للناس تقدير غيرها من العقوبات: مما لا يترتب على تقديرها منهم أذى أو فساد وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: "فلما تفاوتت مراتب الجنايات، ولم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين مؤونة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه وقدرته ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، وما يليق بها من النكال" "
القول بأن الشريعة الإسلامية اتجهت إلى حماية الجماعة، وأهملت شأن المجرم هو كلام خاطىء فالشريعة تحمى الكل حتى المجرم ومن ثم فمرتكب الجريمة قد لا يكون مجرما إلا عند الناس وهو عند الله برىء والمجرم هو غيره فمثلا الحكام الذين يوزعون الأموال على غير عدل الله فيعطون البعض فوقا كفايتهم ويعطون البعض الفتات وهو تحت الكفاية هم المجرمون عندما يقوم بعض من يأخذون الفتات بأخذ بغض حقهم عن طريق ما يسمونه السرقة بينما هو فى الأصل أخذ حق فشروط توقيع العقوبة هنا :
-أن يكون لدى السارق ما يكفيه وأسرته
-ألا يكون لدى السارق دافع ضرورى كالجوع أو علاج مرض
وتعرض الكبيسى لشدة العقوبة فقال:
"حكمة الشدة في عقوبة السرقة:
من الواضح أن الشارع الحكيم لا حظ في عقوبة السرقة أن تكون شديدة قاسية إذ أن قطع يد السارق بربع دينار عقوبة شديدة تنخلع لها القلوب وقد كان هذه الشدة مرتكزا للمغرضين – على مدى الأيام – في نيلهم من الشريعة الإسلامية ومن حسنت نيته منهم: كان مرددا لأصداء ما يقال عنها، دون نظر سديد في موجبات هذه الشدة والحكمة فيها واضحة جلية فإنه لما كان الإسلام معنيا بتوفير الحياة الكريمة والعيش المطمئن لكل الناس كان لا بد من حماية الفضيلة بالقضاء على الرذيلة والفساد، وكل ما من شأنه أن يدنس واجهة الجماعة التي أراد لها الإسلام: أن تكون نقية ناصعة والغاية السليمة تبرر الوسيلة الحازمة ولو كانت شديدة قاسية لأن القسوة ليست شرا في كل أحوالها فإن من لا يراعي مصلحة الآخرين، ليس له أن يطمع في أن تراعى مصلحته ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الشرع لأن في الرحمة بالجاني – حينئذ – قسوة على المجتمع والعدل كل العدل في أن يعاقب من يستحق العذاب وليس أجدر بالعقاب، من ذلك النوع من المجرمين الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء – كالسرقة – لما في خفائها من رهبة شديدة في نفوس الناس وقد بين الله – سبحانه وتعالى – سببين للشدة، في عقوبة السرقة فقال: {جزاء بما كسبا نكالا} "
وكلام الكبيسلا صحيح هنا فما دام المجتمع عادل وفر لكل فرد حاجاته أو يعانى الكل من نفس الشىء فالعقوبة يجب أن تكون شديدة لأنها تعدم العدل حيث يأخذ السارق جزء من نصيب ال×رين وهو ليس من حقه فهو ى يظبم واحد وإنما يظلم المجتمع كله لأنه يبدأ دائرة الظلم فالمسروق لكى يكفى نفسه سيضطر لارتكاب جريمة قد تكون السرقة او تكون كما هو حادث الآن المعلم المظلوم يعطى دروسا خصوصية والطبيب المظلوم يكشف على المرضى كشوفا خصوصية ومن ثم يضطر ولى أمر التلميذ أو المريض أو وليه إلى رفع أسعار ما يعمله فيه إن كان سباكا او نجارا أو غير ذلك ومن ثم تبدأ دائرة لا تنتهى من الظلم وهو ما نحن فيه حاليا
وتناول الكبيسى معنى الجزاء فقال :
"معنى الجزاء:
أما الجزاء فمعناه أن العقوبة مكافئة للجريمة مساوية لها، موافقة لآثارها أي أن العقوبة: إنما هي على الجريمة بكل الآثار الناتجة عنها، والأضرار المترتبة عليها مما لا يقف عند حد أخذ المال المسروق بل يتعدى ذلك إلى ما تحدثه السرقة من ترويع وإفزاع وليس أدل على ذلك من حادثة سرقة واحدة، تقع في حي، أو قرية، نرى معها أي ذعر يعيش فيه الناس، لما أصبح معلوما: أن السارق لا يتورع عن اقتراف كل ما يخطر له في سبيل تحقيق مأربه حتى أصبحت حوادث القتل لأجل السرقة من المألوف الشائع فإن طبيعة السارق موسومة بالشراهة والنهم وليس بين السارق وبين الناس إلا ما بين الذئب وفريسته لا يهمه منها إلا نهشها من أي طرف فمن أجل هذه النتائج المفزعة، كانت الشدة في العقوبة لأن الشارع بين أمرين: إما أن يردع الآثم، وإما أن يفزع الآمن، وليس من عدل الله ورحمته إلا ردع الآثم وزجره بعقوبة تكافئ جرمه، نالها جزاء لذلك الجرم ولهذا السبب لم تقطع يد الغاصب والمنتهب والخائن - مع أن هذه الجرائم وقعت على مال الغير، كالسرقة – إلا أنه ليس فيها من الإفزاع ما في السرقة لأنها تقع في العلن وليس فيه من الرهبة والإذلال مثل ما في الخفاء وفي ذلك يقول المازري :
"صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغضب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة، بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع به حماية لليد ثم لما خانت هانت" ومما يدل على أن الله – سبحانه وتعالى – رتب العقوبة على ما تشيعه السرقة من خوف واضطراب، وليس على ذات المال المسروق: أن قطع اليد يعاقب به السارق إذا سرق ربع دينار والسارق إذا سرق ألف دينار ولو كان القطع على ذات الفعل، لتفاوتت العقوبة في هذا وذاك وكما يقول العز بن عبد السلام : "إن السرقتين: استويتا في المفسدتين" وما ذلك إلا بأثرهما على الجماعة وإلا فإنه لا وجه لتساويهما كما هو ظاهر"
استهل الكبيسى الفقرة بكلام صحيح ثم أدخلنا فى متاهة لا علاقة لها بمعنى الجزاء وهى علاقة الجرائم الاقتصادية بالسرقة والحقيقة أن كل أخذ مال دون وجه حق هو سرقة سواء كان فى الخفاء أو فى العلن
ثم بين الرجل معنى النكال فقال:
"معنى النكال:
وأما النكال فهو منع الغير من ارتكاب السرقة اعتبارا بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم وقد جاء في اللسان – في كلمة نكل – قوله : "نكل بفلان: إذا صنع به صنيعا يحذر منه غيره إذا رآه" ومنه قوله تعالى: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها} أي عبرة ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة، وأجدى لتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم
ولعل من أبسط نتائج هذا النكال: أن عقوبة السرقة – القطع – لم تطبق في خلال نحو قرنين من الزمن إلا في أيد أقل من القليل ولم يتحقق ذلك إلا بشدة العقاب فكانت الشدة والقسوة سببا لصيانة الأيدي وطهارة النفوس وكلما أشتد العقاب، قوى المنع وفي ذلك يقول ابن القيم: "ومن المعلوم: أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته" ويقول ابن عبد السلام: "من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق فإنه إفساد لها، ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق" ومن هنا شاع الفساد وعمت الفوضى، عندما شاء الله لهذه الشريعة أن تحتجب بعض الوقت لحكمة يعلمها فخلفتها القوانين الوضعية التي تجمع في باب واحد بين السرقة وقطع الطريق، وتتساهل في كلتا الحالتين إلى حد اعتبار السرقات المعتادة من قبيل الجنح البسيطة ففتحوا على المجتمع أبواب شرور لا تتناهى فأصبحت جرائم السرقة في مجتمع الوضعيين، من الجرائم المسلم بوقوعها على كثرة تنذر بالخطر المروع، حتى فر الناس خوفا وذعرا من سكنى الأطراف، ولم يأمنوا مع ذلك – وهم في قلب المدينة الكبيرة – أما القرى النائية، والطرق العمومية، والمرتفعات الجبلية، فلا تسأل عما يبتلى به الناس من تسليط عتاة المجرمين المتمردين لأنهم تحاقروا العقوبة على أخطر جريمة "
معنى النكال هنا الانتقام فالله ينتقم ممن يفسد العدل بقطع يديه وهو انتقام عادل وأما كون العقوبة الشديدة تردع الغير فهذا كلام غير صحيح فالعقوبات مهما بلغت شدتها لا تمنع ظهور المجرمين مرة أخرى فالمانع هو إرادة النفوس وبيس شدة العقوبة وأمامنا قوم فرعون عندما عاقبهم الله مرة بالسنين ونقص الثمرات فقال" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون" ومع هذا لم يرتدعوا فعاقبهم بما هو أشد وهو الآيات الخمس فقال "وأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين" ومع شدة تلك العقوبات فغنهم لم يرتدعوا ولم يستجيبوا كما قال تعالى "فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون"
وتعرض الرجل مرة أخرى لحكمة قطع اليد فقال :
"حكمة العقاب بقطع اليد:
كانت عقوبة السارق: قطع يده، دون غيرها من العقوبات لأجل المناسبة بين الجريمة والعقوبة وكان الشارع الحكيم قصد بذلك إلى إتلاف آلة الجريمة
وكما يقول ابن القيم: "أما القطع فجعله عقوبة السارق فكانت عقوبة به أبلغ وأردع من عقوبة الجلد ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم" ويقول: "ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران" ولهذا يقال: "وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه فعوقب السارق بقطع يده قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة" ونجاري ابن القيم في طريقته في التحليل، فنقول: إن السارق – عادة لا يطلب من جريمته غير المال إما ما ينتج عن السرقة من قتل أو اغتصاب فإنما هو تابع لا مقصود ولهذا الاعتبار جاءت العقوبة: قطع اليد للقضاء على هذا الدفاع في نفسه لأن قطع اليد يؤدي – غالبا- إلى نقص الرزق وقلة الكسب فتكون الشريعة الإسلامية قد دفعت العامل النفسي عند السارق، بعامل نفسي مضاد وقد يرد على هذا: لزوم قطع آلة الزنا والقذف، وليس هو حكم الشريعة فنقول: إن هذا الإيراد مدفوع بأن فيه إسرافا وتجاوزا ونكوصا عن أهداف العقوبة المرسومة إذ ليس من مقصود الشارع من العقوبة مجرد الأمن من عدم المعاودة وإلا لقتل السارق وإنما المقصود الزجر والنكال وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، ولم تقطع آلة الزنا لأن الزاني يزني بجميع بدنه والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن كله فعوقب بما يعم جميع بدنه من الجلد والرجم
وفي ذلك يقول النسفي: "وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفاديا من قطع النسل" وزاد القرطبي على هذا الذي ذكره النسفي سببين آخرين "الأول: للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره وقطع اليد في السرقة ظاهر وقطع الذكر في الزنا باطن" "
ما نقله الكبيسى هنا مناقض للفهم فقطع اليد ليس لأنهما سرقتا لأن السرقة وهى أخذ المال دون حق تتم بعملية تشترك فيها النفس التى تخطط وتدبر وأحيانا تنفذ اليد وأحيانا تكون العملية دون أن تمسك اليد شىء عن طريق استئجار محرمين أو عن طريق آلة وأحيانا تتم العملية بطرق كثيرة كرشوة الحكام أو قتل صاحب الحق أو تزوير ورق
قطع اليد هو عقاب طلبه الله كعقاب عادل والغريب أنه هناك رواية تقول أن سارق بعد قطع يديه سرق فقطعوا رجله فالقطع ليس لأن اليد تفقبض المال وإنما هو العقاب المناسب عند الله
وتحدث الكبيسى عن أن الله هو فقط من يكيف العقاب وتحدث عمن أراد أن يفير نوع العقوبة وأدلتهم فقال:
"لا سلطة لغير الشارع في تكييف عقوبة السرقة:
قلنا إن عقوبة السرقة تثبت بالنص فلا يجوز تغييرها، أو تبديلها، أو إسقاطها، وليس للزمان، أو المكان أثر في ذلك
رأي المجوزين:
إلا أن بعض الباحثين ، ذهبوا إلى جواز إلغاء عقوبة السرقة أو تبديلها بعقوبة أخرى، تبعا لتغير الأزمان والأحوال وعلى هذا فإن لولي الأمر، الحق في تكييف عقوبة السرقة حسب الظروف والمقتضيات وهؤلاء الباحثون – ومن وافقهم – على اصل: جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة، يقرها اجتهاد حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسنة وقد استدلوا على ذلك ببعض ما لا تقوم لهم به حجة وبشيء من النظر الخاص كما يظهر ذلك من نصوصهم التالية:
يقول بعض الكاتبين: "إن العمل بمبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان تؤيده الأصول المتفق عليها، وهي: أن التشريع لا يكون حكيما عادلا إلا إذا كانت أحكامه ملائمة من شرع لهم متفقة ومصالحهم، وما تقتضيه بيئتهم وأن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة، ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى، ويعارض مصالحها بل أحكام التشريع الواحد قد تكون ملائمة للأمة ومتفقة ومصالحها في حين غير ملائمة لها ولا متفقة ومصالحها في حين آخر ثم يستطرد قائلا: "وهذه أصول تكاد تكون بديهية غير مفتقرة إلى برهان وأصدق شاهد لها: نسخ بعض الأحكام الشرعية ببعض في التشريع"
ويستشهد هذا الكاتب بابن القيم فيقول: "ولقد كتب في ذلك العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه – إعلام الموقعين – فصولا ممتعة وقال – تحت عنوان، فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد -: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسببه غلط عظيم على الشريعة الإسلامية، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم: أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل"
ويقول كاتب آخر: "ولم يقطع عمر يد سارق أو سارقة في عام المجاعة لأنه رأى أن هذه السرقة كانت لحفظ الحياة وحفظ الحياة مقدم على حفظ المال هذا، مع أن آية حد السرقة صريحة في الأمر بقطع يد السارق والسارقة دون قيد"
ونقف قليلا عند قول هذا الكاتب: دون قيد لنقول له: لا إن الآية صريحة في قطع يد السارق ولكن بقيد، وهو النصاب والحرز وغيرهما من القيود التي جاءت بها السنة المطهرة والتي خصصت عموم الآية ومن القيود – أيضا -: أن لا تكون السرقة لضرورة حفظ الحياة لأن المضطر مأذون بالأخذ فلا يكون سارقا وإذا لم يكن سارقا، فكيف يقطعه عمر؟
وقول كاتب ثالث: "إذا استعرضنا ما قدمنا من الفروع المأثورة في رعاية المصلحة، وجدنا منها ما اعتبرت فيه المصلحة مع معارضتها للكتاب أو السنة أو القياس فمن الأول: إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم وذلك معرض لقوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} ومنه إسقاط حد السرقة عام المجاعة محافظة على الأنفس وذلك معارض لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}
ويقول أحد هؤلاء - أيضا -: "وكان في مقدمة من فتح هذا الباب للمجتهدين عمر بن الخطاب وذلك في حوادث متعددة ومن هذا القبيل: اجتهاد عمر عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين، وهو قطع اليد واكتفاؤه بتعزير السارق عن قطع يده معتبرا: أن السرقة ربما كان يندفع إليها السارقون – حينذاك – بدافع الضرورة، لا بدافع الإجرام وفي هذا كما ترى تغيير لحكم السرقة – الثابت بنص القرآن عملا بتغيير الظروف التي أحاطت بالسرقة"
جواز إسقاط الأحكام
وخلاصة الأمر: فإن هؤلاء يستدلون على جواز إسقاط الأحكام أو تغيرها بما يلي:
- بالنسخ الواقع في الشريعة الإسلامية فإنه تغيير للحكم
- بالإجماع على إسقاط حق المؤلفة قلوبهم في زمن عمر بن الخطاب
- برأي ابن القيم في جواز تغير الفتوى بتغير الظروف
- بفعل عمر بن الخطاب في إسقاط عقوبة السرقة عام المجاعة "
وقد رد الكبيسى على هذه الأقوال فقال :
"ونتكلم عن هذه الأدلة فنقول:
"استدلالهم بالنسخ:
أولا: إن أخذهم بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها غير مسلم فإن وقوع النسخ في القرآن، لا يدل من قريب، أو بعيد على صحة دعواهم، لأن النسخ – كما هو عند الأصوليين – رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه فشرط جواز نسخ الحكم الشرعي: أن يكون ناسخة حكما شرعيا مثله متأخرا عنه والحكم الشرعي الذي يجوز النسخ به، هو ما جاء في كتاب، أو سنة ولا يجوز النسخ بغيرهما فلا ينسخه القياس لأن شرط القياس: التعدي إلى فرع لا نص فيه كما لا ينسخه الإجماع لأنه إن كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسخه السنة وليس الإجماع وإن كان بعد وفاته فلا نسخ حينئذ لأن الأحكام صارت مؤبدة بانقطاع الوحي على أن من الفقهاء من لا يجيز نسخ الكتاب بالسنة فضلا عن عدم جواز نسخها بالإجماع استدلالا بقوله تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} على خلاف في ذلك نجده مبسوطا في كتب الأصول
وهكذا نرى: أنه لا حجة في وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية على دعواهم: جواز تغيير الأحكام وإسقاطها لأن التغيير والإسقاط من غير رسول الله (ص)لا يتوفر له نص شرعي يجوزه والتغيير والإسقاط بغير نص شرعي ممنوع
ثانيا: أما استدلالهم بالإجماع الواقع في زمن عمر على إسقاط نصيب المؤلفة قلوبهم فلا حجة لهم به – أيضا – لأن عمر لم يسقط حكما ولم يعطل نصا فإن عدم تطبيق النص، أو عدم تنفيذه لا يلزم منه إسقاطه أو تغييره وإنما كان ذلك لانعدام محله، وعدم موجبه
فإن الله – سبحانه وتعالى – أمر بجلد الزاني، وقد لا ينفذ هذا الحكم مرة واحدة لعدم وجود الزاني، ولا يصح مع ذلك القول: بأن حكما قد سقط، أو نصا قد عطل وهكذا: في مسألة المؤلفة قلوبهم فإنه لا نصيب للمؤلفة قلوبهم عند عدم وجود فريق من الناس يطلق عليهم هذا الاسم فلا محل – والحالة هذه – لنصيبهم الذي نصت عليه الآية، ولا فرق بينهم وبين ابن السبيل مثلا في احتمال عدم وجوده وعند عدم وجوده لا يتعلق به حكم كما هو معرف وكذلك الغارم والعامل وغيرهما وهذا هو ما وقع في زمن عمر فإن المؤلفة قلوبهم لا يوجدون إلا إذا تألفهم الإسلام وهو لا يتألفهم إلا إذا كان بحاجة إلى ذلك فإذا انتفت الحاجة، لم يعد هناك من يتأليفه فرأى أمير المؤمنين: انتفاء الحاجة إلى تآلف قلوب الأعداء بعد أن أصبح الإسلام ذا قوة وشوكة فإعطاء المؤلفة قلوبهم –حينئذ- اعتراف غير صحيح بحاجة الإسلام إلى كف شر هؤلاء عن الإسلام الذي لم يعد بحاجة إلى ذلك
وعمر –نفسه- لا يخالف في وجوب دفع أنصبتهم لو دعت الحاجة إليه، أو كان أمر الدولة الإسلامية في حال لا يستقيم معه أمرها إلا بذلك ففعل عمر ليس اجتهادا أدى إلى تعطيل النص أو إسقاطه وإنما هو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم ومعلوم أن الاجتهاد المتعلق بتحقيق مناط الحكم لا علاقة له بأمر النص وإنما هو استجلاء لحقائق الأشياء، وإدراكها على ما هي عليه لتعلق حكم شرعي بها كاستجلاء حقيقة البلوغ في الصبي
وفعل عمر -رضي الله عنه- إنما هو تطبيق لموجبات النص، واعتبار لعلته، لأن إعطاء المؤلفة قلوبهم: معلل بحاجة الدعوة الإسلامية لذلك وعندما يشتد ساعد المسلمين وتنعدم حاجتهم إلى تآلف قلوب الأعداء حينئذ تنتفي الحاجة إلى شراء تأييد هؤلاء وكف شرهم بالمال لأن للمسلمين أكثر من وسيلة لكف الأذى عن أنفسهم وعقيدتهم
ومن أجل هذا يقول الأصوليون: إن حكم عمر هذا الذي وافق إجماع المسلمين هو من قبيل: انتهاء الحكم لانتهاء العلة وليس نسخا للحكم لأن الإجماع لا ينسخ النص بل إن الجمهور على أن الإجماع ينسخ الإجماع فما بالك بالنص
استدلالهم بقول ابن القيم
ثالثا: إما استشهادهم بما قاله ابن القيم، فليس له أساس إلا سوء الفهم فمع التسليم بكل ما جاء على لسان ابن القيم جملة وتفصيلا فإنا لا نسلم بفهم الكاتب –المشار إليه- لما قاله ابن القيم ذاك أنه اقتطع بعضا من كلامه، الذي لا يستقيم معناه إلا بضم بعض أجزائه إلى بعض
ففي مسألة: (المصلحة أصل الأحكام في الشريعة) استعراض ابن القيم بعض المسائل التي قد يتوهم: أن فيها معارضة للنص، أو تغييرا للحكم، وإسقاطا للعقوبة، تبعا لاختلاف الفتوى فيها، واختلاف فقهاء الصحابة في كيفية تطبيق النصوص عليها فأوضح الخفاء في وجوه تلك المسائل، وبين: أن ما تظنه بعض الإفهام تناقضا، ليس هو كذلك في الواقع وما تتوهمه إسقاطا، أو تصرفا في نص، إنما هو في دقة تنفيذه في الحقيقة
وقد ضرب ابن القيم لذلك بعض الشواهد، فوفق بين قوله –عليه الصلاة والسلام-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" وبين قوله: "من رأى من أميره ما يكره فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعة" وبين ابن القيم وجه تعطيل الحد في السفر (حين أتى برجل من الغزاة قد سرق فلم يقطعه بسر بن أرطأة) ويرى ابن القيم أن ذلك لم يكن تعطيلا للحد، أو تغييرا للحكم، أو إسقاطا للعقوبة كما قد يتوهم المتوهمون وإنما كان ذلك تطبيقا للنص من بعض وجوهه فقد نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أن تقطع الأيدي في السفر والغزو، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تأخيره بأن يلحق صاحبه بالمشركين"
ثم ذكر ابن القيم، قصة أبي محجن: حين شرب الخمر يوم القادسية، فلما أبلى في القتال بلاء حسنا لم يقم سعد ابن أبي وقاص عليه الحد، "لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله" ثم عقب ابن القيم على ذلك كله فقال: "وليس في هذا ما يخالف نصا، ولا قياسا، ولا قاعدة من قواعد الشرع، ولا إجماعا" "وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض"
هذا هو مجمل كلام ابن القيم: لا نرى فيه جانبا واحدا يدل على: أنه قصد –فيما قال- إلى جواز تغيير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال بل على العكس من ذلك فقد كان دأبه في كل ما ذكره: إزالة اللبس عما يمكن أن يعد من هذا القبيل
فلا ندري: كيف فهم هذا الكاتب –من كلام ابن القيم- ما فهم إلا أن يكون قد خدع بالعنوان الذي أدرج ابن القيم كلامه تحته فقد كان (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغيير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) ففهم من عبارة (تغير الفتوى) تغير الحكم وليس الأمر كذلك فإن الفتوى غير الحكم وإنما هي بيانه، وكيفية تطبيقه على المسألة ولا يختلف الأمر في هذه المسألة –التي سردها ابن القيم- عن الصيام في رمضان مثلا فإن حكمه هو الوجوب ولكن يفتى بإسقاطه عن الحامل المرضع ولا يقال –حينئذ- بأن حكما قد أسقط، أو بدل، أو عطل وإنما هو تطبيق له من وجه آخر
استدلالهم بعمر
رابعا: أما استدلالهم بما فعله، عمر عام الرمادة حين عطل حد السرقة –على حد زعمهم- حيث اعتبروا عدم قطع عمر لغلمان حاطب بن أبي بلتعة- لما سرقوا: تصرفا في النص وتعطيلا للحد-: فهو استدلال مرفوض لأن ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما هو إلا: محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة الغراء- التي جعلت لكل حكم علة وشروطا يدور الحكم معها وجودا وعدما فإن آية السرقة: ليست نصا بالمعنى المقابل للظاهر بل هي عام قابل للتخصيص فهي لا تستعمل وحدها بالدلالة على حكم السرقة بالتفصيل قبل البحث عن المخصصات وإذا فالتمسك بظاهر الآية وحدها دون النظر إلى ما يتعلق بها من مخصصات في السنة الصحيحة، إنما هو تنكب عن جملة الدليل وقد خصصت السنة الصحيحة –كما ذكرنا في أكثر من مكان- كثيرا من آخذي مال الغير فلم تعتبرهم سراقا بالمعنى الذي تقطع به يد السارق كآخذ الشيء التافه وآخذ الثمر والكثر، والآخذ من غير حرز وآخذ ما دون النصاب وغير ذلك
ومن هذا القبيل –أيضا- من يأخذ مال الغير بدون حق، للضرورة وكأن تكون السنة سنة مجاعة وشدة بحيث يغلب على الناس الحاجة الملحة لحفظ الحياة فحينئذ يكون المظنون الغالب: أن لا يسلم سارق من ضرورة تدعوه إلى الحصول على ما يسد به رمقه مما يجعل المالكين بحال يجب معها البذل والعطاء بالثمن، أو بدونه على خلاف في ذلك والناس أرجح
فإذا سرق السارق في هذه الحالة خرج عن مدلول قوله تعالى: {والسارق والسارقة} وإلى هذا أشار أمير المؤمنين حين قال لحاطب بن أبي بلتعة: "إنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له" فهل من قواعد الشريعة الإسلامية: أن تقطع أيديهم بعد ذاك؟ والضرورات تبيح المحظورات ثم إن شبهة الضرورة في هذا المكان أقوى من كثير من الشبه التي جعلها الفقهاء سببا لدرء الحد مثل كون المال المسروق مما يتسارع إليه الفساد، أو ادعاء السارق ملكية الشيء المسروق دون حجة قائمة، وغير ذلك من الشبه الضعيفة التي لا تعد شيئا إلى جانب هذه الشبهة القوية التي ألجأت الإمام العادل إلى درء القطع عن غلمان حاطب لولا ذلك لقطعهم كما صرح هو بذلك حين قال: "لولا أعلم أنكم تجيعوهم لقطعت أيديهم" لأن الجائع مأخوذ مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد به رمقه ويحفظ عليه الحياة ثم إنه على فرض التسليم: بأن ما فعله عمر بن الخطاب كان تغيير للحكم، وإسقاطا للعقوبة فليس فيه دليل على جواز ذلك لأنه ليس فيمن دون رسول الله (ص)حجة وهذا أصل يقره عمر بن الخطاب نفسه فيما رواه ابن وهب عن يونس ابن يزيد عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: وهو على المنبر: "يا أيها الناس، إن الرأي: إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصيبا، إن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف"
ومن ذلك ما أخرجه البيهقي، من طريق الثوري بالسند إلى مسروق، قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب، فذكر في آخر كتابه: "هذا ما أرى الله، أمير المؤمنين عمر فانتهره وقال: لا بل أكتب: هذا ما رأى عمر فإن كان صوابا: فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر"
ويقول –رضي الله عنه-: "السنة ما سنه الله ورسوله (ص)ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة"
خامسا: أما قولهم: "إن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى ويعارض مصالحها" فهذا ما نستعيذ بالله من شر خطراته على الذهن فإن هذه السمة، إن انطبقت على أحكام الشرائع الوضعية التي جبلت بضعف البشر، وقصر النظر، وضيق المدارك، فإنها أبعد ما تكون عن شريعة الله التي أحكم نسجها،وشهد بكمالها فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} وأقرها لكل زمان ومكان فقال –مخاطبا رسوله الكريم-: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}
وإن من أبسط الفروق بين الشرائع السماوية والوضعية هو: "أن التشريع السماوي من الله سبحانه وتعالى، وهو محيط بكل ما دق وخفي من شئون عباده يكون مستوفيا لما يعنيهم من وجوه المصالح التي يعلمها الله لهم حتى ينتهي الأمد الذي قدر لهذا التشريع بخلاف النظام الوضعي فإنه من عمل الواضعين من ذوي السلطة في الجماعة وليس من شك في أن الواضع يتأثر في تكوينه وفي عمله بالعوامل الاجتماعية، كالعرف والعادة والبيئة وأن تلك العوامل عرضة للتغيير فلا يكون القانون الذي وضعه الواضع في هذه الحالة ملائما لحالة أخرى"
والله -سبحانه وتعالى –حينما حكم بالقطع على السارق: لم يكن ليخفى على علمه، ما سوف يستجد من اختلاف الظروف والأحوال، ولو شاء لغير عقوبة القطع بعقوبة أخرى
أما وقد تم التشريع الإسلامي، وأكمل الله دينه –وعقوبة السرقة على حالها- فليس لا حد: أن يدعي أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب عن علم الله –تنزه ذكره- ومن شقي بادعاء ذلك فليسمع قوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} "
وكلام الكبيسى فى رد أدلة القوم صحيح فالنص لا يستبدل برأى بشرى بل بنص مثله والأحكام لا يتم تغييرها لأن أحكام الله راعت كل الجوانب