رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,704
- الإقامة
- مصر
نقد كتاب السياسة للفارابى
مؤلف الكتاب هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني (المتوفى: 339هـ)
بين الفارابى سبب تأليف الرسالة فقال:
" الغرض من الرسالة:
قصدنا في هذا القول ذكر قوانين سياسة يعم نفعها جميع من استعملها من طبقات الناس في متصرفاته مع كل طائفة من أهل طبقته ومن فوقه ومن دونه على سبيل الإيجاز والاختصار على أنه لا يخلو قولنا هذا من ذكر ما تختص باستعماله طائفة دون طائفة وواحد دون واحد منهم في وقت دون وقت ومع قوم دون قوم إذ الواحد من الناس لا يمكنه أن يستعمل في كل وقت مع كل أحد كل ضرب من ضروب السياسات"
مثل أفلاطون ومثل ابن سينا يعتمد الفارابى السياسة الطبقية وهى سياسة ليست من الإسلام فى شىء لقوله تعالى "إنما المؤمنون اخوة"فما دام المسلمون اخوة فلا تفاضل بينهم ولا طبقية ولذا اعتبر الكل ملوكا فقال فى بنى إسرائيل المسلمون"وجعلكم ملوكا"
ثم استهل الرجل الكتاب بالقول بوجود ثلاث طبقات الأرفعين والأكفاء والأوضعين فقال :
"ونقدم لذلك مقدمات منها أن نقول إن كل واحد من الناس متى ما رجع إلى نفسه وتأمل أحوالها وأحوال غيره من أبناء الناس وجد نفسه في رتبة يشركه فيها طائفة منهم ووجد فوق رتبته طائفة منهم أعلى منزلة منه بجهة أو بجهات ووجد دونها طائفة هم أوضع منه بجهة أو جهات لأن الملك الأعظم وأن وجد نفسه في محل لا يرى لأحد من الناس في زمانه منزلة أعلى من منزلته فإنه متى تأمل حالة نعما وجد فيهم من يفضل عليه بنوع من الفضيلة إذ ليس في أجزاء العالم ما هو كامل من جميع الجهات وكذلك الوضيع الخامل الذكر يجد من هو دونه بنوع من الضعة فقد صح ما وصفناه"
لو افترضنا صحة الكلام وهو ليس بصحيح لأنه ناقض نفسه باستمرارية وجود من هو أكثر وضاعة فقال" وكذلك الوضيع الخامل الذكر يجد من هو دونه بنوع من الضعة"كما ناقض نفسه بان الملك الأعظم يجد من يفوقه فقال "لأن الملك الأعظم وأن وجد نفسه في محل لا يرى لأحد من الناس في زمانه منزلة أعلى من منزلته فإنه متى تأمل حالة نعما وجد فيهم من يفضل عليه بنوع من الفضيلة"
ومن ثم فالتقسيم الثلاثى ليس صحيحا لأن معناه وجود طبقات كثيرة جدا بعدد أفراد كل مجتمع ما دام هناك من هو أرفع من الأرفع وما دام هناك من هو أكثر ضعة من الوضيع
ويبين الفارابى الفائدة من التعامل بالسياسة مع الطبقات الثلاث فيقول :
"وينتفع المرء باستعمال السياسات مع هؤلاء الطبقات الثلاث أما مع الأرفعين فلينال مرتبتهم وأما مع الأكفاء فليفضل عليهم وأما مع الأوضعين فلئلا ينحط إلى رتبتهم"
الغريب هو أن الفارابى لم يبين حتى الآن ما هى الرفعة ولا الوضاعة ولا الكفاءة
وبين فوائد علم السياسة المزعومة فقال :
"ونقول أيضا إن أنفع الأمور التي يسلكها المرء في استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أن يتأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم ما شهدها وما غاب عنها مما سمعه وتناهى إليه منها وأن يمعن النظر فيها ويميز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لهم منها ثم ليجتهد في التمسك بمحاسنها لينال من منافعها مثل ما نالوا وفي التحرز والاجتناب من مساوئها ليأمن من مضارها ويسلم من غوائلها مثل ما سلموا"
وهذا الكلام ليس فى مجتمع مسلم فالرجل لا يتكلم عن الأخلاق وإنما يتحدث عن النفعية التى يجلبها علم السياسة المزعوم وبالقطع النفعية الدنيوية ليست كل شىء فهناك أحكام فى الإسلام مثل القتال تجلب الضرر كما قال تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"
ومثل الايثار الذى يفقد المسلم الكثير منه ماله كما فعل النصار وفيهم قال تعالى "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "
ومثلا حكم منع الكفار من دخول المسجد الحرام تسبب فى خسارة مالية تعهد الله بتعويضها فقال "يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء"
ثم بين وجود قوتين في الإنسان فقال :
"ونقول أيضا إن لكل شخص من أشخاص الناس قوتين أحدهما ناطقة والأخرى بهيمية ولكل واحدة منهما إرادة واختيار وهو كالواقف فيما بينهما ولكل منهما فنزاع القوة البهيمية نحو مصادفة اللذات العاجلة الشهوانية مثل أنواع الغذاء وأنواع الاستفراغات وأنواع الاستراحات ونزاع القوة النطقية نحو الأمور المحمودة العواقب مثل أنواع العلوم وأنواع الأفعال التي تجد العواقب المحمودة فأول ما ينشأ الإنسان في حيز البهائم إلى أن يتولد فيه العقل أولا فأولا وتقوى فيه القوة الناطقة فالقوة البهيمية إذن أغلب عليه وكل ما كان أقوى وأغلب فالحاجة إلى إخماده وتوهينه وأخذ الأهبة والاستعداد له أشد وألزم فواجب على كل من يروم نيل الفاضل أن لا يتغافل عن تيقيظ نفسه في كل وقت وتحريضها على ما هو أصلح له وأن لا يهملها ساعة فإنه متى ما أهملها وهي حية والحي متحرك لا بد من أن تتحرك نحو الطرف الآخر الذي هو البهيمي وإذا تحركت نحوه تشبثت ببعض منه حتى إذا أراد ردها عما تحركت إليه لحقه من النصب أضعاف ما كان يلحقه لو لم يهملها ويعطل وقته الذي كان ينبغي أن يحصل فيه فضيلة لاشتغاله بالاحتيال لردها عما تحركت نحوه وفاتته تلك الفضيلة"
الفارابى هنا يبين له وجود قوتين تتصارعان فى الإنسان وهى القوة الناطقة وهى العقل المتدرجة من الضعف للقوة والقوة البهيمية وهى الشهوات والغريب أنه يعتقد وجود ارادتين واحدة لكل منهم وهو خطأ فالإرادة واحدة وهى ليست لهما وإنما لصاحبهما فهو من يختار تقديم احدهما على الأخر فيسير بإرادة حسب ما اختار من الاثنين وهذا فو قوله تعالى ط فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
ثم بين أن الإنسان مستفيد من الأمور المذمومة والمحمودة فقال:
"ونقول أيضا إن المرء لا يخلو في جميع تصرفاته من أن يلقى أمرا محمودا أو أمرا مذموما وله في كل واحد من الأمرين فائدة إن استفادها ويجد في كل واحد منهما نفعا يمكنه جذبه إلى نفسه ويصادف في كل واحد منهما موضع رياضة لنفسه وهو إنه يحتال للتمسك بذلك الأمر المحمود الذي يلقاه إن وجد السبيل إلى التمسك به أو يتشبه بالتمسك به بقدر طاقته إن أعوزه ذلك أو يحسن ذلك الأمر عند نفسه وينبهها على فضيلته ويوجب عليها التمسك به متى ما وجد الفرصة لذلك وهو لا شك واجد السبيل إلى هذه الثلاث وإذا تلقها الأمر المذموم فليجتهد في التحرز منه والاجتناب عنه وإن لم يجد إلى ذلك سبيلا وهو واقع فيه فليبالغ في نفيه عن نفسه بغاية ما أمكنه وإن لم يمكنه التبرؤ منه فليعزم على نفسه إذا تيسر له الخلاص منه لا يعود إلى أشباهه وليقبح إلى نفسه دواعي ذلك الأمر ولينتبهها على الاعتبار بمن نالهم مضار مثلها فقد ظهر إن المرء يصادف في جميع أحواله دقها وجلها خيرها وشرها موضع الرياضة لنفسه"
الرجل هنا يضع علم السياسة مكان الدين وهذا الكلام الكثير عن فعل المحمود والانتهاء عن المذموم طلبه الله بقوله "فاتقوا الله ما استطعتم "
ثم عقد فصلا لمعرفة الله فقال:
"فصل معرفة الخالق وما يجب لعزته
الله منفرد بذاته
ونقول أيضا إن أول ما ينبغي أن يبتدئ به المرء هو أن يعلم إن لهذا العالم وأجزائه صانعا بأن يتأمل الموجودات كلها هل يجد لكل واحد منها سببا وعلة أم لا فإنه يجد عند الاستقراء لكل واحد منها سببا عنه وجد ثم ينظر إلى تلك الأسباب القريبة من الموجودات هل لها أسباب أيضا أم ليست لها أسباب فإنه يجد لها أيضا أسبابا ثم يتأمل وينظر هل الأسباب ذاهبة إلى ما لا نهاية له أم هي واقفة عند نهاية بعض الموجودات أسباب للبعض على سبل الدور فإنه يجد القول بأنها ذاهبة إلى غير نهاية محالا ومضطربا لأنه لا يحيط العلم بما لا نهاية له ويجد القول بأن بعضها سبب للبعض على التعاقب محالا أيضا لأنه يلزم من ذلك أن يكون الشيء سببا لنفسه كما أنه لو كان الألف سببا للباء والباء سببا للجيم والجيم سببا للدال لكان الألف سببا لنفسه وهذا محال فبقي أن تكون الأسباب متناهية وأقل ما يتناهى إليه الكثير هو الواحد فسبب الأسباب موجود وهو واحد ولا يجوز أن يكون ذات السبب وذات المسبب واحدا فسبب أسباب العالم منفرد بذاته عما دونه"
برهن الفارابى هنا كلاميا على وجوب وجود الله من خلال علم الرياضيات حيث يبدأ كل شىء بالواحد ومن الواحد ينتج كل ما بعده ومن خلال نظرية السبب والمسبب فلابد أن يكون هناك مسبب اول لا مسبب قبله
ثم بين أن الإنسان نزه الله عن كل نقص ووصفه بكل كمال فقال :
"ولما لم يقدر الإنسان على معرفة شيء سوى ما شاهده بحواسه وفهمه بعقله مما شاهده لم يجد بدا من وصف البارئ الذي هو سبب الأسباب والعبارة عنه بما وجد السبيل إليه من الألفاظ والأوصاف فلما أراد العبارة عنه والوصف له وعلم انه لا يلحقه شيء من جميع الأوصاف التي شاهدها وعلمها لتفرده بذاته ولأنه منزه عن كل ما أحسه وعرفه لم يجد طريقا أحسن من أن ينظر في الموجودات التي لديه فإذا تأملها وجدها صنفين فاضلا وخسيسا ووجد الأليق والأجدر بسبب الأسباب الواحد الحق أن يطلق عليه من كل الصنفين أفضلهما مثل أنه رأى الموجود والمعدوم وعلم أن الموجود أفضل من المعدوم فأطلق القول عليه وقال إنه موجود ورأى الحي وغير الحي وعلم أن الحي أفضل من غير الحي فأطلق القول عليه وقال إنه حي ورأى العليم وغير العليم فأضاف إليه العلم وكذلك جميع الأوصاف على أن الواجب على كل من يصف البارئ بصفة ما أن يخطر بباله مع تلك الصفة أنه بذاته منزه عن أن يشبه تلك الصفة بل هو أفضل وأشرف وأعلى وإنه لا يتهيأ لأحد إحاطة العلم به كما هو مستحق له ثم إنه إذا علم هذا الذي وصفناه فينبغي أن يتأمل أجزاء العالم كلها فإنه يجد أفضلها ما هو ذو نفس ويجد أفضل ذوى الأنفس الذي له الاختيار والإرادة والحركة التي عن روية وأفضل ذوى الإرادة والحركة عن الروية الذي له التمييز والفكر والنظر البليغ في العواقب وهو الإنسان الفاضل وأن يعلم مع ذلك أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا فكيف مبدع الطبيعة والبارئ تعالى حيث هو وهب الاختيار والفكر والروية المبرية لم يكن ينبغي أن يهمل أمرها وكان من الواجب في عدله وصنعه المتقن أن ينهج لها منهجا يسلكونه"
فى الكلام نظرية خاطئة وهى لم يجد طريقا أحسن من أن ينظر في الموجودات التي لديه فإذا تأملها وجدها صنفين فاضلا وخسيسا ووجد الأليق والأجدر بسبب الأسباب الواحد الحق أن يطلق عليه من كل الصنفين أفضلهما فهذه النظرية خاطئة فمثلا الحياء عند الناس فاضل والخسيس الجرأة أو الوقاحة ولكن لا يمكن أن يوصف الله به لقوله تعالى " والله لا يستحى من الحق" ومثلا النطق والبهيمية لا يمكن وصف الله بالنطق وهو العقل لكونه مخلوق وإنما سمى نفسه الحكيم
ثم تعرض الفارابى للنبوات فقال :
"النبوات
ولما كان ذلك واجبا لم يكن ينبغي أن يرسل إليها من ليس من طبعها لأنهم لم يكونوا يقدرون على الاستفهام ممن هو من غير طبعهم فظاهر أن في الناس وفي عقولهم وقوى نفسهم تفاضلا بيننا حتى أن الواحد منهم يفوق بالفن الواحد جميع ذوى جنسه ويعجز الباقين عنه فممكن إذن أن يكون من الناس من يقوى على أن يوحى إلى قلبه بما يعجز ذوو جنسه عن مثله حتى يقوم ذلك الواحد بتبليغ ما يلقى إليه ويقدر بتلك القوة وذلك الإفهام على تشريع الأحكام ونهج السبل الداعية إلى صلاح الخلق ثم ينبغي أن تعلم إنه إذا ظهر مثل هذا الوجه وتبين أمره فالواجب على كل ذي تمييز اتباعه وأن تعلم إن لكل واحد من الناس تمييزا ومعرفة فمتى عرف الأفهام الكثيرة والآراء المختلفة مجتمعة على كلمة واحدة ولم يجد ما هو أظهر منه وأكشف وأقوى فليتبع الكثير فإن الحق معهم والسلامة أبدا مع الكثير وينبغي أن لا تغره الواقعات في الندرة وفي الآراء المزخرفة فإن أكثرها أباطيل إذا تأملنا نعما"
وما سبق قوله فى النبوات هى نظرية غير صحيحة فالنبوة لا تعتمد أن يكون من الناس من يقوى على أن يوحى إلى قلبه بما يعجز ذوو جنسه عن مثله حتى يقوم ذلك الواحد بتبليغ ما يلقى إليه فالنبوة اختيار أى اصطفاء من الله وهو اصطفاء بناء على علم الله المسبق بأن فلان يبحث عن الحقيقة ويريد تنفيذ العدل بين البشر كما قال تعالى " الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس"
ولو كان بقية الناس عجزة عن التبليغ ما قام الرسول(ص) بتعليمهم ما يعلمه لتوصيله إلى أقوامهم كما قال تعالى "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"
ثم تحدث عن الجزاء فبين ان العمل المثاب هو العمل المقرون بالنية فقال :
"ثم ينبغي أن يعلم إن المكافأة واجبة في الطبيعة وإنها إنما تجب في الأعمال المقرونة بالنيات والدليل على ذلك أن المرء لا يجازى على ما يعمله في نومه ولا على ما لبس من إرادته واختياره مثل سعاله وعطاسه وحياته وموته وتنفسه واغتذائه واستفراغه وإن كان فيها بعض الإرادة ولا يجازى أيضا على نياته المجردة وأول ما ينبغي أن يستدل به المرء على وجوب المكافأة هو أنه متى ما أعتقد ما تقدم ذكره من معرفة البارئ ووحدانيته وتنزهه عن صفات المخلوقين ومعرفة رسوله في أي زمان كان وانتهج النهج المستقيم وجد في صدره سعة وفي أحواله استقامة وعن الأشرار سلامة وعند الاختيار خطوة وفي معاشه سدادا مقدار ما يفعله وينويه منه وإذا تيقن ذلك فينبغي أن يقدم على سياسة الأحوال بقلب قوي ونية صادقة وصدر واسع وثقة بأن ما يأتيه من ذلك وإن قل يجدي عليه نفعا يجل"
ثم بين ما سماه طرق التعامل مع الرؤساء فقال :
"فصل ما ينبغي أن يستعمله المرء مع رؤسائه
نبدأ بتعهد الرؤساء لما سنصفه فنقول إن المرء مع من هو فوقه من الرؤساء لا يخلو من أن يكون متصديا لخدمته أو يكون بينه وبين من هو فوقه حال يلقاه في بعض الأوقات أو يكون بالبعد لا يلقاه إلا بالذكر فواجب على المرء أن يستعمل مع من هو متصد لخدمته ما نقوله وهو أن يكون ملازما لما هو بصدده مواظبا على ما فوض إليه ويجتهد أن يكون نصب عينه إذا ذكره ولا يخشى الملال وخصوصا من الملوك لأن موضع الملال إنما يكون عند كثرة غشيان الناس المواضع التي ليس لهم فيها عمل"
الفارابى ما زال يعتقد أن الفرد عبد عليه أن يكون فى خدمة الملك بلا ملل وهو خبل فالمسلمون لا يعملون عند ملوك لكونهم اخوة فى مجتمع واحد وهم لا يخدمون الملك وإنما يخدمون أخرتهم
ثم بين المطلوب الثانى وهو بيان محاسن الرئيس فقال :
"وأن يكون مازجا له مقرظا لجميع ما يأتيه الرئيس من دق أو جل مجتهدا في طلب وجوه حسان لكل ما يفعله ويقوله وهو واجد ذلك إذ ليس شيء من الأمور في العالم إلا وله وجهان أحدهما جميل والآخر قبيح فليطلب لكل أمر من أموره وجها جميلا يعرفه إليه ويتكلف بذكره بحضرته وغيبته"
وهو ما يتعارض مع كلام الله هو والفقرة التالية :
"بيان وجه الصلاح للرئيس بالحيلة
وإن كان المرء ممن فوض إليه تدبير ذلك الرئيس مثل أن يكون وزيرا أو مشيرا أو معلما ولا بد من تعريفه وجه الصلاح في الأعمال فليعلم أن الرئيس كالسيل المنحدر من الربوة إن أراد المرء أن يصرفه إلى ناحية من النواحي وواجهه أهلك نفسه وأتى عليه السيل فأغرقه وإن سعي معه وعلى جانبيه وتلطف ليصرفه إلى الناحية التي يريدها بأن يطرح في بعض جوانبه مقدارا من السدد ويطرق له من الجانب الآخر لا ينشب أن يصرفه إلى حيث شاء ويبغي له أيضا أن يستعمل مع الرئيس في صرف وجهه عما يريد صرفه من أمر يريد أن يجرى معه في ما هو جار نحوه ولا يواجهه بأمر ولا نهي بل يريه وجه الصلاح في خلاف ما يأتيه ويقبح عنده في الوقت بعد الوقت على سبيل الحكايات عن غيره والحيل اللطيفة بعض ما يعرض بما هو فيه فإنه إذا استعمل معه هذه الطريقة لا يلبث أن يعود الحال بمراده"
وبالقطع هذا الكلام يتعارض مع وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فلا يقوم المسلم بمدح مسلم على القيام بواجبه وهى العبارة المعروفة لا شكر على واجب كما أنه لو تحايل لابلاغه الخطأ الذى وقع فيه فإنه سيقع فيه فى المدة التى يفكر فيها فى حيلة لابلاغه بالخطأ والتأخر عن الإبلاغ بالخطأ هو ما جعل المخطىء يزداد فى غيه
ثم بين أن على الفرد حفظ أسرار الرئيس وأحواله الظاهرة فقال :
"وأن يكون كاتما لأسراره والحيلة في ذلك أن يكتم جميع أحواله الظاهرة بما يقدر عليه فإن كان كاتما للأحوال الظاهرة فهو بالحرى أن لا يعثر على إفشاء سر باطن ولا يؤمن على السر المكتوم أن يظهر ببعض الأحوال الظاهرة لأن الأمور والأحوال متصلة متعلقة بعضها ببعض"
ولا يوجد فى الإسلام كتم لأسرار العمل فلا يوجد أسرار سوى فى الجهاد وهى لا تكون شرا إلا على غير المسلمين كما قال تعالى "يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"
المجتمع المسلم هو مجتمع شفاف لا يوجد فيه أسرار عمل لأن الأسرار فقط تتواجد مع من يريد عمل جريمة ولذا فهو يخفى هذا الكلام فكيف ينال كل مسلم حقه إن حجبت معلومات عنه ؟
ويناقض الفارابى نفسه فهو هنا يبين أن الرؤساء المزعومين لا يجب على الفرد إخبارهم بأخطاءهم مع انه سبق أن القول بجواز ايجاد الحيل لإخبارهم بتلك الخطاء لإصلاحها وفى هذا قال :
"وأن يعلم إن للرؤساء همما ينفردون بها عمن سواهم من الناس وهي أنهم يعتقدون في جميع من دونهم الاستخدام والاستعباد وفي أنفسهم الإصابة في جميع ما يأتونه وإنما تحدث هذه الهمة فيهم لكثرة مدح الناس لهم وإطرائهم أعمالهم وتصويبهم آرائهم وذلك في طباع كل الناس
الاحتراز بالأخبار عن النفس بحضرة الرئيس وأن يحترز كل الاحتراز بأن يخبر عن نفسه بحضرة الرئيس شيئا يمكن أن يتخذ ذلك بوجه من الوجوه جرما عليه وإن كان في غاية الانبساط معه ولا يقر بما يلقى منه إلى الرئيس مما يستقبح نسيان بين الخبر والإقرار وليس يؤمن تغير الأحوال"
والرجل يبين أن على المرءوس أن يتهم نفسه بالخطأ سواء كان المخطىء الرئيس أو هو فيقول :
"وأما إذا اعترض بينه وبين الرئيس حال لا يمكن صرف القبيح منه ألا إليه أو إلى الرئيس فقط فليجتهد في صرف ذلك القبيح إلى نفسه وليجعل لذلك أوجها فإذا اتجه القبيح نحوه تبرأت ساحة الرئيس منه أو كاد أن يتجه فليحتل لأن يطلب لذلك الأمر سببا يكون بدؤه من غيره لترجع اللائمة لعيه وإن كان بالقصد الثاني على غيره لئلا يلتزم باللائمة"
وهو كلام جنونى لا يقوله إلا من اراد استمرار الظلم ويخالف وجوب ترك المسلم لمن ظلم بقوله " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"
والخبل أيضا هو أن يقدم الفرد مصلحة الرئيس على مصلحته وهو قوله :
"وما من شيء أبلغ وأعم نفعا في باب العبودية من ترك المرء حظ نفسه في جميع ما يباشر من الأعمال الرئيسية فإنه ما من أمر يتعاطاه المرء مما هو بينه وبين الرئيس ألا ويجد لنفسه فيه موضع حظ فينبغي أن يتركه ويتجنبه ويستخلص لما هو حظ الرئيس فإنه مهما فعل ذلك اجتنى ثمره خيره ومهما اشتغل باستيفاء حظه لا يأتي الأمر على وجهه ووقع فيه خلل وترك الأمر خير من إفساده"
فالمصلحة التى ينبغى على المسلم البحث عنها هى مصلحته الأخروية وهذه المصلحة تقتضى أن يواجه الرئيس بالأخطاء وأن يقومه وأن يقتله إن لم يزل ظلمه ويعود للحق لأنه إن لم يفعل سيدخل النار كما قال تعالى "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "
والغريب أن الفارابى يطالب الفرد بالسعى خلف الأموال عن طريق الرؤساء فيقول:
"وينبغي أن يتلطف كل التطلف في نيل المنافع من جهة الرؤساء بأن لا يلح في السؤال ولا يديمه ولا يظهر الطمع والشره من نفسه ويجتهد في أن يطلب من الرؤساء أسباب المنافع لا المنافع أنفسها مثل إطلاق اليد في وجوه يجلب منها الأموال والمنافع ليقل السؤال ويكثر النفع ويجتهد فأن ينتفع بالرئيس لا منه من انتفع بهم أعزوه ومن انتفع منهم ملوه يضع لمرءوس ماله ونفسه في خدمة الرئيس وليضع نفسه عندهم في صورة من يتخلع عن ملكه وقنيته لهم بأهون كلمة وأدون سعى وليحذر كل الحذر من أن يتصور عندهم منه أنه يضن بماله أو يحب أن يستأثر بشيء من مفتنياته فإنه يصير حينئذ بعرض من الاستقصاء والممنوع محروص عليه والمبذول مملول منه وليجتهد أن يظهر في كل ما يقتضيه إنما يفعله ليكون زينة وجمالا للرئيس لا لنفسه فأنه ملاك للإبقاء"
وهذا الكلام إنما هو تكريس للظلم فما يأخذه فرد زائدا على حاجته يكون ينقص حق من أفراد أهرين وهو عادة الرؤساء وحواشيهم حيث يستولون على مالية البلاد بشتى الطرق
والفارابى يطالب الفرد بعدم مس مميزات الرؤساء فيقول :
"وليحذر أن يتخذ لنفسه شيئا مما يتفرد به الرئيس أو مما يليق بالرؤساء الذين فوقه فإنه كلما اتخذ شيئا من ذلك عرض نفسه للهلاك وعرض ذلك الشيء للذهاب"
وهو كلام يتعارض مع الإسلام فلا مزايا للحاكم فى الإسلام فهو فرد من ضمن الأفراد له ما لهم وعليه ما عليهم والأغرب هو أن الفارابى بطالب الفرد بالتذلل والخضوع للرؤساء حتى لو نقصوا حقه أو أهانوه فيقول :
"وينبغي أن لا يظهر من نفسه إلا الاستغناء عن الرؤساء ولا فيما يقل مقداره وأن يكون مظهرا أبدا قناعة ورضى بكل ما يتصرف فيه من الأمور والأحوال ومتى ما لحقته سخطه من الرئيس أو ملال وما أشبهه فليجتهد في ترك الشكاية منه وليحظر من إظهار العداوة والحقد وليصرف وجه الذنب منه إلى نفسه ثم ليجتهد ويتلطف لتجديد حال يزيل تلك السخطة بأهون ما يقدر عليه فهذه قوانين ينتفع باستعمالها في معاشرة الرؤساء"
ما سماه الفارابى هو تكريس لدولة الظلم فالمجتمع الذى يتحدث عنها هو مجتمع كافر يسعى لتكريس السلطة والظلم فى المجتمع
وعقد الرجل فصلا فى معاملة الأكفاء أى الأتراب المساوون للفرد فقال :
"فصل ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع أكفائه
أما ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع الأكفاء فسنذكر منه جملا ونقول إن الأكفاء لا يخلون من أن يكونوا أصدقاء أو أعداء أو ليسوا بأصدقاء ولا أعداء"
واستهل الكلام بتقسيم الأصدقاء لمخلصين يجب معاملتهم بالحسنى فى كل الأحوال وأصدقاء مصلحة ينبغى أيضا معاملتهم بالحسنى فيقول:
"والأصدقاء صنفان أحدهما الأصفياء المخلصون في الصداقة فينبغي للمرء أن يديم ملاطفتهم وتعهد أحوالهم وأسبابهم وإهداء ما يستحسنه وما تيسر له إليهم في كل وقت ويخفى الحال فيما بينه وبينهم بغير أن يظهر منه ملال أو تقصير ويجتهد في الإكثار منهم غاية الجهد فإن الصديق زين المرء وعضده وعونه وناصره ومذيع فضائله وكاتم هفواته وما حي زلاته ومهما كان هؤلاء أكثر كانت أحوال المرء فيما بينهم أحسن وأقوم والصنف الآخر الأصدقاء في الظاهر عن غير صدق فيما يظهرونه بل بتشبه وتصنع فينبغي للمرء أن يجاملهم ويحسن إليهم ولا يطلعهم عن شيء من أسراره وخصوصا من عيونه ولا يلقى إليهم من خواص أحاديثه وأفعاله وأحواله ولا يحثهم عن نعمة ولا عن أسباب منافعه وليجتهد في استمالتهم والصبر معهم بحسب الظاهر دون أخذهم بالباطل ولا يأخذهم بالتقصير ولا يقطع عتابهم فيما يقع منهم من التقصير ولا يجازهم على ذلك فإنه مهما فعل ذلك ترجى صلاحهم ورجوعهم إلى مراده ولعلهم يصيرون في رتبة الأصفياء له وليس شيء أدل على صدق الإخاء وإظهار الوفاء ولا أشد استجلابا للمحبة ووجوب الحق من تعهد أحوال أصدقاء الأصدقاء فإن المرء إذا رأى صديقه وهو يتعهد أحوال أخلانه والمتصلين به يستدل بذلك على صدق محبته له ويثق بوداده ويقوى أمله ورجاؤه فيه وأفضل ما يستعمله المرء مع أصدقائه هو أن يتعهد أحوالهم عند الحاجة والفاقة ويؤاسيهم بما يمكنه من غير أن يحوجهم إلى المسئلة ويتعاهد أقاربهم وعائلاتهم إذا ماتوا فإنه متى شهر بذلك رغب صداقته كل أحد وبذلك يكثر أصدقاؤه"
ثم تحدث عن أصناف الأعداء فقسمهم لحاقدين وحاسدين يجب الخذر منهم فقال :
"والأعداء أيضا صنفان أحدهما ذوو الأحقاد والضغائن وينبغي للمرء أن يحترس منهم كل الاحتراس ويستطلع عن أحوالهم بكل ما أمكنه ومهما اطلع منهم على مكر أو خديعة أو تدبير يدبرونه فليقابلهم بما يناقض تدبيرهم ويكثر الشكاية منهم إلى الرؤساء وإفناء الناس ليعرفوا بعداوتهم حتى لا ينجح في أحد قولهم عليه وليصيروا متهمين عند الناس في أقوالهم وأفعالهم بما ظهر عندهم من معاداتهم إياه وكل من آيس المرء من صلاحه وتيقن سوء طبعه وتمكن الضغينة من قلبه فلينتهز الفرصة في إهلاكه ومهما وجدها فلينتهزها ولا يتغافل عما يمكنه إذا يتقن بقدرته على إهلاكه وأن علم إنه ربما لا يقدر على إتمام أمره والنجاة منه فلا يسرع في شيء منه لئلا يجد العدو عليك مما يتعلق به عند الناس مما يمهد لنفسه عندهم في عداوته عذرا والصنف الآخر من الأعداء الحساد وينبغي للمرء أن يظهر لهم ملا يغيظهم ويؤذيهم بأن يلقى إليهم ذكر النعم التي يختص بها لتذوب لها نفوسهم ويحترز مع ذلك من دسيستهم ويحتال لظهور حسدهم فيه وفي غيره من الناس ليعرفوا بذلك"
ثم بين أن هناك صنف ثالث غير الأصدقاء والأعداء فقال :
:فأما سائر الناس الذين ليسوا بصديق ولا عدو ولا متصنع فهم طبقات سنذكر جلها وجل ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع كل طائفة منها"
ثم قسمهم إلى :
أ - النصحاء
فمنهم النصحاء الذين يتبرعون بالنصيحة فالواجب على المرء أن يتفرغ بالخلوة مع كل من أدعى أنه ناصح له ويسمع إلى قوله ويعزم على قلبه أولا بأن لا يغتر بكل قول يسمعه وأن لا يعجل إلى قبوله ولا يعمل بكل ما ينهي إليه بل يتأمل أقاويلهم ويتعرف أغراضهم غاية التعرف ليقف مع معرفة أغراضهم على حقيقة أقاويلهم فإذا لاح له وجه الصواب وحقيقة الأمر في شيء مما ألقوه إليه بادر إلى إنفاذ الأمر فيه وليكن تلقيه لكل واحد منهم بهشاشة وإظهار حرص على ما يلقيه إليه"
وهو هنا يطالب الفرد بالتفكير فى النصائح قبل الخ ذبها او عدم الخ ذبها وأما القسم الثانى فهم :
ب - الصلحاء
ومنهم الصلحاء وهم إناس يتبرعون لإصلاح ما بين الناس فيجب على المرء أن يمدحهم أبدا على ما يفعلونه وإن يتشبه بهم في جميع أحواله فإن مذاهبهم مرضية عند جميع الناس ومهما تشبه المرء بهم عرف بالخير وحسن النية"
وما نرفضه هنا هو مدح الصلحاء فالصلاح واجب على كل إنسان والواجب لا يشكر الإنسان عليه فى الدنيا لأنه ينال ثوابه فى الآخرة كما أن المدح غالبا هو طريق لفساد الممدوح ولذا يجب التقليل منه إلى أقل درجة والصنف الثالث هو :
ج - السفهاء
ومنهم السفهاء فيجب على المرء استعمال الحلم معهم وأن لا يؤاتيهم ولا يقابلهم بما هو فيه من السفاهة بل يتلقاهم أبدا بحلم رزين وسكون بليغ ليعرفوا قلة مبالاته بما هم فيه ولا يؤذوه بعد ذلك متى تلقوه بالمشاتمة والسفه فيجب إن يتلقاهم بالمحقرة وقلة الاكتراث"
والرابع هو :
د - أهل الكبر والمنافة
ومنهم أهل الكبر والمنافة فيجب على المرء أن يقابلهم بمثله لأنه إن تواضع أحسوا منه بضعف وتوهموا أن فيه لينا وأن فعلهم ذلك صواب وأنه لا بد للناس من التواضع لهم ومتى تكبر المرء عليهم وكابرهم في الأحوال وتأذوا به علموا أن الذنب في ذلك منهم ورجعوا إلى التواضع وحسن المعاشرة"
وتلك الأصناف لا تتواجد فى المجتمع المسلم فالمجتمع كله صلحاء ومن صلاحهم كونهم نصحاء ولا يتواجد فيه سفهاء ولا متكبرين لن كل هذا يخرج المرء من إسلامه إلى الكفر
مؤلف الكتاب هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني (المتوفى: 339هـ)
بين الفارابى سبب تأليف الرسالة فقال:
" الغرض من الرسالة:
قصدنا في هذا القول ذكر قوانين سياسة يعم نفعها جميع من استعملها من طبقات الناس في متصرفاته مع كل طائفة من أهل طبقته ومن فوقه ومن دونه على سبيل الإيجاز والاختصار على أنه لا يخلو قولنا هذا من ذكر ما تختص باستعماله طائفة دون طائفة وواحد دون واحد منهم في وقت دون وقت ومع قوم دون قوم إذ الواحد من الناس لا يمكنه أن يستعمل في كل وقت مع كل أحد كل ضرب من ضروب السياسات"
مثل أفلاطون ومثل ابن سينا يعتمد الفارابى السياسة الطبقية وهى سياسة ليست من الإسلام فى شىء لقوله تعالى "إنما المؤمنون اخوة"فما دام المسلمون اخوة فلا تفاضل بينهم ولا طبقية ولذا اعتبر الكل ملوكا فقال فى بنى إسرائيل المسلمون"وجعلكم ملوكا"
ثم استهل الرجل الكتاب بالقول بوجود ثلاث طبقات الأرفعين والأكفاء والأوضعين فقال :
"ونقدم لذلك مقدمات منها أن نقول إن كل واحد من الناس متى ما رجع إلى نفسه وتأمل أحوالها وأحوال غيره من أبناء الناس وجد نفسه في رتبة يشركه فيها طائفة منهم ووجد فوق رتبته طائفة منهم أعلى منزلة منه بجهة أو بجهات ووجد دونها طائفة هم أوضع منه بجهة أو جهات لأن الملك الأعظم وأن وجد نفسه في محل لا يرى لأحد من الناس في زمانه منزلة أعلى من منزلته فإنه متى تأمل حالة نعما وجد فيهم من يفضل عليه بنوع من الفضيلة إذ ليس في أجزاء العالم ما هو كامل من جميع الجهات وكذلك الوضيع الخامل الذكر يجد من هو دونه بنوع من الضعة فقد صح ما وصفناه"
لو افترضنا صحة الكلام وهو ليس بصحيح لأنه ناقض نفسه باستمرارية وجود من هو أكثر وضاعة فقال" وكذلك الوضيع الخامل الذكر يجد من هو دونه بنوع من الضعة"كما ناقض نفسه بان الملك الأعظم يجد من يفوقه فقال "لأن الملك الأعظم وأن وجد نفسه في محل لا يرى لأحد من الناس في زمانه منزلة أعلى من منزلته فإنه متى تأمل حالة نعما وجد فيهم من يفضل عليه بنوع من الفضيلة"
ومن ثم فالتقسيم الثلاثى ليس صحيحا لأن معناه وجود طبقات كثيرة جدا بعدد أفراد كل مجتمع ما دام هناك من هو أرفع من الأرفع وما دام هناك من هو أكثر ضعة من الوضيع
ويبين الفارابى الفائدة من التعامل بالسياسة مع الطبقات الثلاث فيقول :
"وينتفع المرء باستعمال السياسات مع هؤلاء الطبقات الثلاث أما مع الأرفعين فلينال مرتبتهم وأما مع الأكفاء فليفضل عليهم وأما مع الأوضعين فلئلا ينحط إلى رتبتهم"
الغريب هو أن الفارابى لم يبين حتى الآن ما هى الرفعة ولا الوضاعة ولا الكفاءة
وبين فوائد علم السياسة المزعومة فقال :
"ونقول أيضا إن أنفع الأمور التي يسلكها المرء في استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أن يتأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم ما شهدها وما غاب عنها مما سمعه وتناهى إليه منها وأن يمعن النظر فيها ويميز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لهم منها ثم ليجتهد في التمسك بمحاسنها لينال من منافعها مثل ما نالوا وفي التحرز والاجتناب من مساوئها ليأمن من مضارها ويسلم من غوائلها مثل ما سلموا"
وهذا الكلام ليس فى مجتمع مسلم فالرجل لا يتكلم عن الأخلاق وإنما يتحدث عن النفعية التى يجلبها علم السياسة المزعوم وبالقطع النفعية الدنيوية ليست كل شىء فهناك أحكام فى الإسلام مثل القتال تجلب الضرر كما قال تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"
ومثل الايثار الذى يفقد المسلم الكثير منه ماله كما فعل النصار وفيهم قال تعالى "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة "
ومثلا حكم منع الكفار من دخول المسجد الحرام تسبب فى خسارة مالية تعهد الله بتعويضها فقال "يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء"
ثم بين وجود قوتين في الإنسان فقال :
"ونقول أيضا إن لكل شخص من أشخاص الناس قوتين أحدهما ناطقة والأخرى بهيمية ولكل واحدة منهما إرادة واختيار وهو كالواقف فيما بينهما ولكل منهما فنزاع القوة البهيمية نحو مصادفة اللذات العاجلة الشهوانية مثل أنواع الغذاء وأنواع الاستفراغات وأنواع الاستراحات ونزاع القوة النطقية نحو الأمور المحمودة العواقب مثل أنواع العلوم وأنواع الأفعال التي تجد العواقب المحمودة فأول ما ينشأ الإنسان في حيز البهائم إلى أن يتولد فيه العقل أولا فأولا وتقوى فيه القوة الناطقة فالقوة البهيمية إذن أغلب عليه وكل ما كان أقوى وأغلب فالحاجة إلى إخماده وتوهينه وأخذ الأهبة والاستعداد له أشد وألزم فواجب على كل من يروم نيل الفاضل أن لا يتغافل عن تيقيظ نفسه في كل وقت وتحريضها على ما هو أصلح له وأن لا يهملها ساعة فإنه متى ما أهملها وهي حية والحي متحرك لا بد من أن تتحرك نحو الطرف الآخر الذي هو البهيمي وإذا تحركت نحوه تشبثت ببعض منه حتى إذا أراد ردها عما تحركت إليه لحقه من النصب أضعاف ما كان يلحقه لو لم يهملها ويعطل وقته الذي كان ينبغي أن يحصل فيه فضيلة لاشتغاله بالاحتيال لردها عما تحركت نحوه وفاتته تلك الفضيلة"
الفارابى هنا يبين له وجود قوتين تتصارعان فى الإنسان وهى القوة الناطقة وهى العقل المتدرجة من الضعف للقوة والقوة البهيمية وهى الشهوات والغريب أنه يعتقد وجود ارادتين واحدة لكل منهم وهو خطأ فالإرادة واحدة وهى ليست لهما وإنما لصاحبهما فهو من يختار تقديم احدهما على الأخر فيسير بإرادة حسب ما اختار من الاثنين وهذا فو قوله تعالى ط فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
ثم بين أن الإنسان مستفيد من الأمور المذمومة والمحمودة فقال:
"ونقول أيضا إن المرء لا يخلو في جميع تصرفاته من أن يلقى أمرا محمودا أو أمرا مذموما وله في كل واحد من الأمرين فائدة إن استفادها ويجد في كل واحد منهما نفعا يمكنه جذبه إلى نفسه ويصادف في كل واحد منهما موضع رياضة لنفسه وهو إنه يحتال للتمسك بذلك الأمر المحمود الذي يلقاه إن وجد السبيل إلى التمسك به أو يتشبه بالتمسك به بقدر طاقته إن أعوزه ذلك أو يحسن ذلك الأمر عند نفسه وينبهها على فضيلته ويوجب عليها التمسك به متى ما وجد الفرصة لذلك وهو لا شك واجد السبيل إلى هذه الثلاث وإذا تلقها الأمر المذموم فليجتهد في التحرز منه والاجتناب عنه وإن لم يجد إلى ذلك سبيلا وهو واقع فيه فليبالغ في نفيه عن نفسه بغاية ما أمكنه وإن لم يمكنه التبرؤ منه فليعزم على نفسه إذا تيسر له الخلاص منه لا يعود إلى أشباهه وليقبح إلى نفسه دواعي ذلك الأمر ولينتبهها على الاعتبار بمن نالهم مضار مثلها فقد ظهر إن المرء يصادف في جميع أحواله دقها وجلها خيرها وشرها موضع الرياضة لنفسه"
الرجل هنا يضع علم السياسة مكان الدين وهذا الكلام الكثير عن فعل المحمود والانتهاء عن المذموم طلبه الله بقوله "فاتقوا الله ما استطعتم "
ثم عقد فصلا لمعرفة الله فقال:
"فصل معرفة الخالق وما يجب لعزته
الله منفرد بذاته
ونقول أيضا إن أول ما ينبغي أن يبتدئ به المرء هو أن يعلم إن لهذا العالم وأجزائه صانعا بأن يتأمل الموجودات كلها هل يجد لكل واحد منها سببا وعلة أم لا فإنه يجد عند الاستقراء لكل واحد منها سببا عنه وجد ثم ينظر إلى تلك الأسباب القريبة من الموجودات هل لها أسباب أيضا أم ليست لها أسباب فإنه يجد لها أيضا أسبابا ثم يتأمل وينظر هل الأسباب ذاهبة إلى ما لا نهاية له أم هي واقفة عند نهاية بعض الموجودات أسباب للبعض على سبل الدور فإنه يجد القول بأنها ذاهبة إلى غير نهاية محالا ومضطربا لأنه لا يحيط العلم بما لا نهاية له ويجد القول بأن بعضها سبب للبعض على التعاقب محالا أيضا لأنه يلزم من ذلك أن يكون الشيء سببا لنفسه كما أنه لو كان الألف سببا للباء والباء سببا للجيم والجيم سببا للدال لكان الألف سببا لنفسه وهذا محال فبقي أن تكون الأسباب متناهية وأقل ما يتناهى إليه الكثير هو الواحد فسبب الأسباب موجود وهو واحد ولا يجوز أن يكون ذات السبب وذات المسبب واحدا فسبب أسباب العالم منفرد بذاته عما دونه"
برهن الفارابى هنا كلاميا على وجوب وجود الله من خلال علم الرياضيات حيث يبدأ كل شىء بالواحد ومن الواحد ينتج كل ما بعده ومن خلال نظرية السبب والمسبب فلابد أن يكون هناك مسبب اول لا مسبب قبله
ثم بين أن الإنسان نزه الله عن كل نقص ووصفه بكل كمال فقال :
"ولما لم يقدر الإنسان على معرفة شيء سوى ما شاهده بحواسه وفهمه بعقله مما شاهده لم يجد بدا من وصف البارئ الذي هو سبب الأسباب والعبارة عنه بما وجد السبيل إليه من الألفاظ والأوصاف فلما أراد العبارة عنه والوصف له وعلم انه لا يلحقه شيء من جميع الأوصاف التي شاهدها وعلمها لتفرده بذاته ولأنه منزه عن كل ما أحسه وعرفه لم يجد طريقا أحسن من أن ينظر في الموجودات التي لديه فإذا تأملها وجدها صنفين فاضلا وخسيسا ووجد الأليق والأجدر بسبب الأسباب الواحد الحق أن يطلق عليه من كل الصنفين أفضلهما مثل أنه رأى الموجود والمعدوم وعلم أن الموجود أفضل من المعدوم فأطلق القول عليه وقال إنه موجود ورأى الحي وغير الحي وعلم أن الحي أفضل من غير الحي فأطلق القول عليه وقال إنه حي ورأى العليم وغير العليم فأضاف إليه العلم وكذلك جميع الأوصاف على أن الواجب على كل من يصف البارئ بصفة ما أن يخطر بباله مع تلك الصفة أنه بذاته منزه عن أن يشبه تلك الصفة بل هو أفضل وأشرف وأعلى وإنه لا يتهيأ لأحد إحاطة العلم به كما هو مستحق له ثم إنه إذا علم هذا الذي وصفناه فينبغي أن يتأمل أجزاء العالم كلها فإنه يجد أفضلها ما هو ذو نفس ويجد أفضل ذوى الأنفس الذي له الاختيار والإرادة والحركة التي عن روية وأفضل ذوى الإرادة والحركة عن الروية الذي له التمييز والفكر والنظر البليغ في العواقب وهو الإنسان الفاضل وأن يعلم مع ذلك أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا فكيف مبدع الطبيعة والبارئ تعالى حيث هو وهب الاختيار والفكر والروية المبرية لم يكن ينبغي أن يهمل أمرها وكان من الواجب في عدله وصنعه المتقن أن ينهج لها منهجا يسلكونه"
فى الكلام نظرية خاطئة وهى لم يجد طريقا أحسن من أن ينظر في الموجودات التي لديه فإذا تأملها وجدها صنفين فاضلا وخسيسا ووجد الأليق والأجدر بسبب الأسباب الواحد الحق أن يطلق عليه من كل الصنفين أفضلهما فهذه النظرية خاطئة فمثلا الحياء عند الناس فاضل والخسيس الجرأة أو الوقاحة ولكن لا يمكن أن يوصف الله به لقوله تعالى " والله لا يستحى من الحق" ومثلا النطق والبهيمية لا يمكن وصف الله بالنطق وهو العقل لكونه مخلوق وإنما سمى نفسه الحكيم
ثم تعرض الفارابى للنبوات فقال :
"النبوات
ولما كان ذلك واجبا لم يكن ينبغي أن يرسل إليها من ليس من طبعها لأنهم لم يكونوا يقدرون على الاستفهام ممن هو من غير طبعهم فظاهر أن في الناس وفي عقولهم وقوى نفسهم تفاضلا بيننا حتى أن الواحد منهم يفوق بالفن الواحد جميع ذوى جنسه ويعجز الباقين عنه فممكن إذن أن يكون من الناس من يقوى على أن يوحى إلى قلبه بما يعجز ذوو جنسه عن مثله حتى يقوم ذلك الواحد بتبليغ ما يلقى إليه ويقدر بتلك القوة وذلك الإفهام على تشريع الأحكام ونهج السبل الداعية إلى صلاح الخلق ثم ينبغي أن تعلم إنه إذا ظهر مثل هذا الوجه وتبين أمره فالواجب على كل ذي تمييز اتباعه وأن تعلم إن لكل واحد من الناس تمييزا ومعرفة فمتى عرف الأفهام الكثيرة والآراء المختلفة مجتمعة على كلمة واحدة ولم يجد ما هو أظهر منه وأكشف وأقوى فليتبع الكثير فإن الحق معهم والسلامة أبدا مع الكثير وينبغي أن لا تغره الواقعات في الندرة وفي الآراء المزخرفة فإن أكثرها أباطيل إذا تأملنا نعما"
وما سبق قوله فى النبوات هى نظرية غير صحيحة فالنبوة لا تعتمد أن يكون من الناس من يقوى على أن يوحى إلى قلبه بما يعجز ذوو جنسه عن مثله حتى يقوم ذلك الواحد بتبليغ ما يلقى إليه فالنبوة اختيار أى اصطفاء من الله وهو اصطفاء بناء على علم الله المسبق بأن فلان يبحث عن الحقيقة ويريد تنفيذ العدل بين البشر كما قال تعالى " الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس"
ولو كان بقية الناس عجزة عن التبليغ ما قام الرسول(ص) بتعليمهم ما يعلمه لتوصيله إلى أقوامهم كما قال تعالى "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"
ثم تحدث عن الجزاء فبين ان العمل المثاب هو العمل المقرون بالنية فقال :
"ثم ينبغي أن يعلم إن المكافأة واجبة في الطبيعة وإنها إنما تجب في الأعمال المقرونة بالنيات والدليل على ذلك أن المرء لا يجازى على ما يعمله في نومه ولا على ما لبس من إرادته واختياره مثل سعاله وعطاسه وحياته وموته وتنفسه واغتذائه واستفراغه وإن كان فيها بعض الإرادة ولا يجازى أيضا على نياته المجردة وأول ما ينبغي أن يستدل به المرء على وجوب المكافأة هو أنه متى ما أعتقد ما تقدم ذكره من معرفة البارئ ووحدانيته وتنزهه عن صفات المخلوقين ومعرفة رسوله في أي زمان كان وانتهج النهج المستقيم وجد في صدره سعة وفي أحواله استقامة وعن الأشرار سلامة وعند الاختيار خطوة وفي معاشه سدادا مقدار ما يفعله وينويه منه وإذا تيقن ذلك فينبغي أن يقدم على سياسة الأحوال بقلب قوي ونية صادقة وصدر واسع وثقة بأن ما يأتيه من ذلك وإن قل يجدي عليه نفعا يجل"
ثم بين ما سماه طرق التعامل مع الرؤساء فقال :
"فصل ما ينبغي أن يستعمله المرء مع رؤسائه
نبدأ بتعهد الرؤساء لما سنصفه فنقول إن المرء مع من هو فوقه من الرؤساء لا يخلو من أن يكون متصديا لخدمته أو يكون بينه وبين من هو فوقه حال يلقاه في بعض الأوقات أو يكون بالبعد لا يلقاه إلا بالذكر فواجب على المرء أن يستعمل مع من هو متصد لخدمته ما نقوله وهو أن يكون ملازما لما هو بصدده مواظبا على ما فوض إليه ويجتهد أن يكون نصب عينه إذا ذكره ولا يخشى الملال وخصوصا من الملوك لأن موضع الملال إنما يكون عند كثرة غشيان الناس المواضع التي ليس لهم فيها عمل"
الفارابى ما زال يعتقد أن الفرد عبد عليه أن يكون فى خدمة الملك بلا ملل وهو خبل فالمسلمون لا يعملون عند ملوك لكونهم اخوة فى مجتمع واحد وهم لا يخدمون الملك وإنما يخدمون أخرتهم
ثم بين المطلوب الثانى وهو بيان محاسن الرئيس فقال :
"وأن يكون مازجا له مقرظا لجميع ما يأتيه الرئيس من دق أو جل مجتهدا في طلب وجوه حسان لكل ما يفعله ويقوله وهو واجد ذلك إذ ليس شيء من الأمور في العالم إلا وله وجهان أحدهما جميل والآخر قبيح فليطلب لكل أمر من أموره وجها جميلا يعرفه إليه ويتكلف بذكره بحضرته وغيبته"
وهو ما يتعارض مع كلام الله هو والفقرة التالية :
"بيان وجه الصلاح للرئيس بالحيلة
وإن كان المرء ممن فوض إليه تدبير ذلك الرئيس مثل أن يكون وزيرا أو مشيرا أو معلما ولا بد من تعريفه وجه الصلاح في الأعمال فليعلم أن الرئيس كالسيل المنحدر من الربوة إن أراد المرء أن يصرفه إلى ناحية من النواحي وواجهه أهلك نفسه وأتى عليه السيل فأغرقه وإن سعي معه وعلى جانبيه وتلطف ليصرفه إلى الناحية التي يريدها بأن يطرح في بعض جوانبه مقدارا من السدد ويطرق له من الجانب الآخر لا ينشب أن يصرفه إلى حيث شاء ويبغي له أيضا أن يستعمل مع الرئيس في صرف وجهه عما يريد صرفه من أمر يريد أن يجرى معه في ما هو جار نحوه ولا يواجهه بأمر ولا نهي بل يريه وجه الصلاح في خلاف ما يأتيه ويقبح عنده في الوقت بعد الوقت على سبيل الحكايات عن غيره والحيل اللطيفة بعض ما يعرض بما هو فيه فإنه إذا استعمل معه هذه الطريقة لا يلبث أن يعود الحال بمراده"
وبالقطع هذا الكلام يتعارض مع وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فلا يقوم المسلم بمدح مسلم على القيام بواجبه وهى العبارة المعروفة لا شكر على واجب كما أنه لو تحايل لابلاغه الخطأ الذى وقع فيه فإنه سيقع فيه فى المدة التى يفكر فيها فى حيلة لابلاغه بالخطأ والتأخر عن الإبلاغ بالخطأ هو ما جعل المخطىء يزداد فى غيه
ثم بين أن على الفرد حفظ أسرار الرئيس وأحواله الظاهرة فقال :
"وأن يكون كاتما لأسراره والحيلة في ذلك أن يكتم جميع أحواله الظاهرة بما يقدر عليه فإن كان كاتما للأحوال الظاهرة فهو بالحرى أن لا يعثر على إفشاء سر باطن ولا يؤمن على السر المكتوم أن يظهر ببعض الأحوال الظاهرة لأن الأمور والأحوال متصلة متعلقة بعضها ببعض"
ولا يوجد فى الإسلام كتم لأسرار العمل فلا يوجد أسرار سوى فى الجهاد وهى لا تكون شرا إلا على غير المسلمين كما قال تعالى "يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"
المجتمع المسلم هو مجتمع شفاف لا يوجد فيه أسرار عمل لأن الأسرار فقط تتواجد مع من يريد عمل جريمة ولذا فهو يخفى هذا الكلام فكيف ينال كل مسلم حقه إن حجبت معلومات عنه ؟
ويناقض الفارابى نفسه فهو هنا يبين أن الرؤساء المزعومين لا يجب على الفرد إخبارهم بأخطاءهم مع انه سبق أن القول بجواز ايجاد الحيل لإخبارهم بتلك الخطاء لإصلاحها وفى هذا قال :
"وأن يعلم إن للرؤساء همما ينفردون بها عمن سواهم من الناس وهي أنهم يعتقدون في جميع من دونهم الاستخدام والاستعباد وفي أنفسهم الإصابة في جميع ما يأتونه وإنما تحدث هذه الهمة فيهم لكثرة مدح الناس لهم وإطرائهم أعمالهم وتصويبهم آرائهم وذلك في طباع كل الناس
الاحتراز بالأخبار عن النفس بحضرة الرئيس وأن يحترز كل الاحتراز بأن يخبر عن نفسه بحضرة الرئيس شيئا يمكن أن يتخذ ذلك بوجه من الوجوه جرما عليه وإن كان في غاية الانبساط معه ولا يقر بما يلقى منه إلى الرئيس مما يستقبح نسيان بين الخبر والإقرار وليس يؤمن تغير الأحوال"
والرجل يبين أن على المرءوس أن يتهم نفسه بالخطأ سواء كان المخطىء الرئيس أو هو فيقول :
"وأما إذا اعترض بينه وبين الرئيس حال لا يمكن صرف القبيح منه ألا إليه أو إلى الرئيس فقط فليجتهد في صرف ذلك القبيح إلى نفسه وليجعل لذلك أوجها فإذا اتجه القبيح نحوه تبرأت ساحة الرئيس منه أو كاد أن يتجه فليحتل لأن يطلب لذلك الأمر سببا يكون بدؤه من غيره لترجع اللائمة لعيه وإن كان بالقصد الثاني على غيره لئلا يلتزم باللائمة"
وهو كلام جنونى لا يقوله إلا من اراد استمرار الظلم ويخالف وجوب ترك المسلم لمن ظلم بقوله " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"
والخبل أيضا هو أن يقدم الفرد مصلحة الرئيس على مصلحته وهو قوله :
"وما من شيء أبلغ وأعم نفعا في باب العبودية من ترك المرء حظ نفسه في جميع ما يباشر من الأعمال الرئيسية فإنه ما من أمر يتعاطاه المرء مما هو بينه وبين الرئيس ألا ويجد لنفسه فيه موضع حظ فينبغي أن يتركه ويتجنبه ويستخلص لما هو حظ الرئيس فإنه مهما فعل ذلك اجتنى ثمره خيره ومهما اشتغل باستيفاء حظه لا يأتي الأمر على وجهه ووقع فيه خلل وترك الأمر خير من إفساده"
فالمصلحة التى ينبغى على المسلم البحث عنها هى مصلحته الأخروية وهذه المصلحة تقتضى أن يواجه الرئيس بالأخطاء وأن يقومه وأن يقتله إن لم يزل ظلمه ويعود للحق لأنه إن لم يفعل سيدخل النار كما قال تعالى "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "
والغريب أن الفارابى يطالب الفرد بالسعى خلف الأموال عن طريق الرؤساء فيقول:
"وينبغي أن يتلطف كل التطلف في نيل المنافع من جهة الرؤساء بأن لا يلح في السؤال ولا يديمه ولا يظهر الطمع والشره من نفسه ويجتهد في أن يطلب من الرؤساء أسباب المنافع لا المنافع أنفسها مثل إطلاق اليد في وجوه يجلب منها الأموال والمنافع ليقل السؤال ويكثر النفع ويجتهد فأن ينتفع بالرئيس لا منه من انتفع بهم أعزوه ومن انتفع منهم ملوه يضع لمرءوس ماله ونفسه في خدمة الرئيس وليضع نفسه عندهم في صورة من يتخلع عن ملكه وقنيته لهم بأهون كلمة وأدون سعى وليحذر كل الحذر من أن يتصور عندهم منه أنه يضن بماله أو يحب أن يستأثر بشيء من مفتنياته فإنه يصير حينئذ بعرض من الاستقصاء والممنوع محروص عليه والمبذول مملول منه وليجتهد أن يظهر في كل ما يقتضيه إنما يفعله ليكون زينة وجمالا للرئيس لا لنفسه فأنه ملاك للإبقاء"
وهذا الكلام إنما هو تكريس للظلم فما يأخذه فرد زائدا على حاجته يكون ينقص حق من أفراد أهرين وهو عادة الرؤساء وحواشيهم حيث يستولون على مالية البلاد بشتى الطرق
والفارابى يطالب الفرد بعدم مس مميزات الرؤساء فيقول :
"وليحذر أن يتخذ لنفسه شيئا مما يتفرد به الرئيس أو مما يليق بالرؤساء الذين فوقه فإنه كلما اتخذ شيئا من ذلك عرض نفسه للهلاك وعرض ذلك الشيء للذهاب"
وهو كلام يتعارض مع الإسلام فلا مزايا للحاكم فى الإسلام فهو فرد من ضمن الأفراد له ما لهم وعليه ما عليهم والأغرب هو أن الفارابى بطالب الفرد بالتذلل والخضوع للرؤساء حتى لو نقصوا حقه أو أهانوه فيقول :
"وينبغي أن لا يظهر من نفسه إلا الاستغناء عن الرؤساء ولا فيما يقل مقداره وأن يكون مظهرا أبدا قناعة ورضى بكل ما يتصرف فيه من الأمور والأحوال ومتى ما لحقته سخطه من الرئيس أو ملال وما أشبهه فليجتهد في ترك الشكاية منه وليحظر من إظهار العداوة والحقد وليصرف وجه الذنب منه إلى نفسه ثم ليجتهد ويتلطف لتجديد حال يزيل تلك السخطة بأهون ما يقدر عليه فهذه قوانين ينتفع باستعمالها في معاشرة الرؤساء"
ما سماه الفارابى هو تكريس لدولة الظلم فالمجتمع الذى يتحدث عنها هو مجتمع كافر يسعى لتكريس السلطة والظلم فى المجتمع
وعقد الرجل فصلا فى معاملة الأكفاء أى الأتراب المساوون للفرد فقال :
"فصل ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع أكفائه
أما ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع الأكفاء فسنذكر منه جملا ونقول إن الأكفاء لا يخلون من أن يكونوا أصدقاء أو أعداء أو ليسوا بأصدقاء ولا أعداء"
واستهل الكلام بتقسيم الأصدقاء لمخلصين يجب معاملتهم بالحسنى فى كل الأحوال وأصدقاء مصلحة ينبغى أيضا معاملتهم بالحسنى فيقول:
"والأصدقاء صنفان أحدهما الأصفياء المخلصون في الصداقة فينبغي للمرء أن يديم ملاطفتهم وتعهد أحوالهم وأسبابهم وإهداء ما يستحسنه وما تيسر له إليهم في كل وقت ويخفى الحال فيما بينه وبينهم بغير أن يظهر منه ملال أو تقصير ويجتهد في الإكثار منهم غاية الجهد فإن الصديق زين المرء وعضده وعونه وناصره ومذيع فضائله وكاتم هفواته وما حي زلاته ومهما كان هؤلاء أكثر كانت أحوال المرء فيما بينهم أحسن وأقوم والصنف الآخر الأصدقاء في الظاهر عن غير صدق فيما يظهرونه بل بتشبه وتصنع فينبغي للمرء أن يجاملهم ويحسن إليهم ولا يطلعهم عن شيء من أسراره وخصوصا من عيونه ولا يلقى إليهم من خواص أحاديثه وأفعاله وأحواله ولا يحثهم عن نعمة ولا عن أسباب منافعه وليجتهد في استمالتهم والصبر معهم بحسب الظاهر دون أخذهم بالباطل ولا يأخذهم بالتقصير ولا يقطع عتابهم فيما يقع منهم من التقصير ولا يجازهم على ذلك فإنه مهما فعل ذلك ترجى صلاحهم ورجوعهم إلى مراده ولعلهم يصيرون في رتبة الأصفياء له وليس شيء أدل على صدق الإخاء وإظهار الوفاء ولا أشد استجلابا للمحبة ووجوب الحق من تعهد أحوال أصدقاء الأصدقاء فإن المرء إذا رأى صديقه وهو يتعهد أحوال أخلانه والمتصلين به يستدل بذلك على صدق محبته له ويثق بوداده ويقوى أمله ورجاؤه فيه وأفضل ما يستعمله المرء مع أصدقائه هو أن يتعهد أحوالهم عند الحاجة والفاقة ويؤاسيهم بما يمكنه من غير أن يحوجهم إلى المسئلة ويتعاهد أقاربهم وعائلاتهم إذا ماتوا فإنه متى شهر بذلك رغب صداقته كل أحد وبذلك يكثر أصدقاؤه"
ثم تحدث عن أصناف الأعداء فقسمهم لحاقدين وحاسدين يجب الخذر منهم فقال :
"والأعداء أيضا صنفان أحدهما ذوو الأحقاد والضغائن وينبغي للمرء أن يحترس منهم كل الاحتراس ويستطلع عن أحوالهم بكل ما أمكنه ومهما اطلع منهم على مكر أو خديعة أو تدبير يدبرونه فليقابلهم بما يناقض تدبيرهم ويكثر الشكاية منهم إلى الرؤساء وإفناء الناس ليعرفوا بعداوتهم حتى لا ينجح في أحد قولهم عليه وليصيروا متهمين عند الناس في أقوالهم وأفعالهم بما ظهر عندهم من معاداتهم إياه وكل من آيس المرء من صلاحه وتيقن سوء طبعه وتمكن الضغينة من قلبه فلينتهز الفرصة في إهلاكه ومهما وجدها فلينتهزها ولا يتغافل عما يمكنه إذا يتقن بقدرته على إهلاكه وأن علم إنه ربما لا يقدر على إتمام أمره والنجاة منه فلا يسرع في شيء منه لئلا يجد العدو عليك مما يتعلق به عند الناس مما يمهد لنفسه عندهم في عداوته عذرا والصنف الآخر من الأعداء الحساد وينبغي للمرء أن يظهر لهم ملا يغيظهم ويؤذيهم بأن يلقى إليهم ذكر النعم التي يختص بها لتذوب لها نفوسهم ويحترز مع ذلك من دسيستهم ويحتال لظهور حسدهم فيه وفي غيره من الناس ليعرفوا بذلك"
ثم بين أن هناك صنف ثالث غير الأصدقاء والأعداء فقال :
:فأما سائر الناس الذين ليسوا بصديق ولا عدو ولا متصنع فهم طبقات سنذكر جلها وجل ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع كل طائفة منها"
ثم قسمهم إلى :
أ - النصحاء
فمنهم النصحاء الذين يتبرعون بالنصيحة فالواجب على المرء أن يتفرغ بالخلوة مع كل من أدعى أنه ناصح له ويسمع إلى قوله ويعزم على قلبه أولا بأن لا يغتر بكل قول يسمعه وأن لا يعجل إلى قبوله ولا يعمل بكل ما ينهي إليه بل يتأمل أقاويلهم ويتعرف أغراضهم غاية التعرف ليقف مع معرفة أغراضهم على حقيقة أقاويلهم فإذا لاح له وجه الصواب وحقيقة الأمر في شيء مما ألقوه إليه بادر إلى إنفاذ الأمر فيه وليكن تلقيه لكل واحد منهم بهشاشة وإظهار حرص على ما يلقيه إليه"
وهو هنا يطالب الفرد بالتفكير فى النصائح قبل الخ ذبها او عدم الخ ذبها وأما القسم الثانى فهم :
ب - الصلحاء
ومنهم الصلحاء وهم إناس يتبرعون لإصلاح ما بين الناس فيجب على المرء أن يمدحهم أبدا على ما يفعلونه وإن يتشبه بهم في جميع أحواله فإن مذاهبهم مرضية عند جميع الناس ومهما تشبه المرء بهم عرف بالخير وحسن النية"
وما نرفضه هنا هو مدح الصلحاء فالصلاح واجب على كل إنسان والواجب لا يشكر الإنسان عليه فى الدنيا لأنه ينال ثوابه فى الآخرة كما أن المدح غالبا هو طريق لفساد الممدوح ولذا يجب التقليل منه إلى أقل درجة والصنف الثالث هو :
ج - السفهاء
ومنهم السفهاء فيجب على المرء استعمال الحلم معهم وأن لا يؤاتيهم ولا يقابلهم بما هو فيه من السفاهة بل يتلقاهم أبدا بحلم رزين وسكون بليغ ليعرفوا قلة مبالاته بما هم فيه ولا يؤذوه بعد ذلك متى تلقوه بالمشاتمة والسفه فيجب إن يتلقاهم بالمحقرة وقلة الاكتراث"
والرابع هو :
د - أهل الكبر والمنافة
ومنهم أهل الكبر والمنافة فيجب على المرء أن يقابلهم بمثله لأنه إن تواضع أحسوا منه بضعف وتوهموا أن فيه لينا وأن فعلهم ذلك صواب وأنه لا بد للناس من التواضع لهم ومتى تكبر المرء عليهم وكابرهم في الأحوال وتأذوا به علموا أن الذنب في ذلك منهم ورجعوا إلى التواضع وحسن المعاشرة"
وتلك الأصناف لا تتواجد فى المجتمع المسلم فالمجتمع كله صلحاء ومن صلاحهم كونهم نصحاء ولا يتواجد فيه سفهاء ولا متكبرين لن كل هذا يخرج المرء من إسلامه إلى الكفر