وسام الصباغ
إداري سابق
- المشاركات
- 7,082
- الإقامة
- دبي
من بين الأفلام الأوروبية التي تناولت الحرب العالمية الثانية، هناك فيلم دنماركي اسمه «حرب في فترة الشتاء»، ويحكي قصة آثار هذه الحرب في حياة أسرة تعيش في قرية دنماركية صغيرة خاضعة للاحتلال النازي، ومع قرب وصول جحافل الجيش السوفياتي، دار حوار بين الابن المقاوم للنازيين والعم الموالي لهم، إذ قال العم للابن: «سنرى عندما يأتي السوفيات من هو المحتل ومن هو المحرر».
في يوم السبت الـ11 من نيسان (أبريل)، قرر نيد باركر الرحيل عن بغداد. وپاركر هذا يعمل مديراً لمكتب وكالة الأخبار «رويترز»، وسبب رحيله هو تهديدات القتل التي وجهت له عبر صفحات «فيسبوك» وقناة تلفزيونية تابعة لميليشيات الحشد الشعبي. سبب هذه التهديدات هو تقرير نشره پاركر واثنان من رفاقه عن الأعمال التي قامت بها ميليشيات الحشد الشعبي، عندما قامت بانتزاع مدينة تكريت من سيطرة تنظيم داعش.
في هذا التقرير، نجد ميليشيات الحشد تنحر رجلاً قيل أنه ينتمي إلى «داعش»، وتسحل جثثاً لقتلى آخرين، وتحرق المنازل، وتدمر المحال. في تقارير أخرى، نشرتها منظمة العفو وهيومن رايتس ووتش، نجد هذه القوات تخطف شباب السنة وتقتلهم وتعذب وتحرق المنازل وتدمر القرى ذات الغالبية السنيّة...الخ. فمن هو فعلاً «المحتل» ومن هو «المحرر»؟
قبل أيام، كتب الباحث العراقي فنر حدّاد مقالةً بعنوان: «الحشد يعيد رسم الخريطة العسكرية والسياسية للعراق». في هذه المقالة حاول فنر أن يثبت نقاطاً عدة: الأولى، أنه على رغم هذه المخالفات والجرائم التي تقوم بها ميليشيات الحشد الشعبي، إلا أنها لا تملك آيديولوجيا الإبادة التي تتبناها داعش، ومن يساوي بين الاثنين يقلل من حجم ما تعرض له الإيزيديون العراقيون على يد «داعش»، كما أنه يغفل أن الحشد الشعبي يضم بين صفوفه مقاتلين من طوائف أخرى.
هذا النوع من الحجج ضعيف، ذلك لو أردنا المقارنة لوجدنا أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يتمتع بآيديولوجيا الإبادة نفسها التي كان يتبناها هتلر، إلا أن هذا لم يمنع السوفيات من استهداف وقتل أكثر من الذين قتلهم هتلر. لكن فنر، ولأنه يخاطب الغربيين، يعلم جيّداً أن حساسية القتل على الهويّة أشد تأثيراً من كميّة القتلى، فاستهداف بضع مئات من الإيزيديين (قليلي العدد) أهون وأخف في هذا الميزان الهوياتي من استهداف آلاف السنة الأكثر عدداً. بمعنى آخر: من يستهدف الأقليات المذهبية الصغرى أشد إجراماً من الذي يستهدف الأقليّة الكبرى.
عندما سقطت الموصل، كان الحديث الذي ساد في الإعلام العربي أن الموصل سقطت بأيدي «ثوّار العشائر» وبعض من عناصر «داعش». كان العراقيون الموالون للحكومة، ومن بينهم فنر، يسخرون من هذا التوصيف، وكانوا يعتبرون وجود بضعة مقاتلين أو بضعة كتائب عشائرية تقاتل إلى جانب داعش لا يغيّر من حقيقة أن «داعش» هي الفاعل الأكبر والرئيس. الآن فنر يقوم بما كان يسخر به نفسه، أي المبالغة في التشديد على وجود عشرات المقاتلين من الطوائف الأخرى ليثبت أن الحشد ألطف من «داعش».
إلى هذه الحجج، يضيف فنر حجة أخرى: أن «داعش» رؤيتها شمولية، تريد تغيير كامل النظام الاجتماعي والسياسي القائم، في حين أن ميليشيات الحشد -وإيران من ورائها- لا تسعى إلا إلى تحقيق نصر استراتيجي ضمن النظام القائم.
وهذه الحجة مراوغة، إذ لو أخذنا التعريف الذي يقترحه فنر للشمولية على محمل الجد، فإننا لن نجد أكثر من الحكومة الأميركية وعملائها العراقيين من الذين قاموا بتفكيك الدولة العراقية (حلّ الجيش، وحظر الحزب الحاكم وتفكيكه، وإلغاء الطبقة البيروقراطية القائمة) ودفعها نحو الحرب الأهلية الطاحنة، وشن حملات تطهير عرقي وتغيير ديموغرافي في بغداد وغيرها. ومن هنا تصبح ميليشيا الحشد دفاعاً عن ذاك البرنامج الشمولي، ومن ثم لا تختلف في شموليتها بشيء عن «داعش»، بل فرقها أنها تدافع عن مشروع بدأ مبكراً.
آخر ما في جعبة فنر من حجج، هو حجة الضرورة: أنه لا يوجد اليوم إلا الحشد، ومن ثم كل من يهمه بقاء الحكومة العراقية سيجد نفسه مضطراً إلى دعم الحشد. وهذه حجة باطلة من ثلاثة أوجه، أولها: أن الحكومة التي تعتمد في وجودها على دعم الميليشيات قد كفّت عن أن تكون حكومة؛ لأنها عاجزة عن القيام بأبسط مهامها- حماية الناس. وثانيها: أن مثل هذه الحجة ستدان أخلاقياً عندما يرفعها أبناء السنة في العراق في تبريرهم لدعم داعش باعتبارها الكيان الوحيد الذي يمكن أن يحميهم من بطش المالكي وحكومته.
وأخيراً، أنها تفتح الباب للحرب الأهلية، إذ من الواضح أن ليس كل العراقيين مفتونون ببقاء الحكومة، ومن ثم سيكون تقويمهم لمن سيضطرون إلى التحالف معه مختلفاً بالضرورة.
ما الحل؟ الجواب صعب، فالعراقيون بين مطرقة الحشد وسندان «داعش». كلا الخيارين بائس، كلا الخيارين طائفي. الحكومة ضعيفة، والبلد ساحة نفوذ إقليمي. إلا أن من المهم التأكيد على أن صعوبة الجواب لا يعني مبرراً لاختيار عشوائي بين الاثنين، فكما أن قسوة جرائم «داعش» في سورية، لا تبرر الارتماء في أحضان الأسد، فهذه الجرائم أيضاً لا تبرر الارتماء في أحضان الحشد.
الكاتب : سلطان العامر
في يوم السبت الـ11 من نيسان (أبريل)، قرر نيد باركر الرحيل عن بغداد. وپاركر هذا يعمل مديراً لمكتب وكالة الأخبار «رويترز»، وسبب رحيله هو تهديدات القتل التي وجهت له عبر صفحات «فيسبوك» وقناة تلفزيونية تابعة لميليشيات الحشد الشعبي. سبب هذه التهديدات هو تقرير نشره پاركر واثنان من رفاقه عن الأعمال التي قامت بها ميليشيات الحشد الشعبي، عندما قامت بانتزاع مدينة تكريت من سيطرة تنظيم داعش.
في هذا التقرير، نجد ميليشيات الحشد تنحر رجلاً قيل أنه ينتمي إلى «داعش»، وتسحل جثثاً لقتلى آخرين، وتحرق المنازل، وتدمر المحال. في تقارير أخرى، نشرتها منظمة العفو وهيومن رايتس ووتش، نجد هذه القوات تخطف شباب السنة وتقتلهم وتعذب وتحرق المنازل وتدمر القرى ذات الغالبية السنيّة...الخ. فمن هو فعلاً «المحتل» ومن هو «المحرر»؟
قبل أيام، كتب الباحث العراقي فنر حدّاد مقالةً بعنوان: «الحشد يعيد رسم الخريطة العسكرية والسياسية للعراق». في هذه المقالة حاول فنر أن يثبت نقاطاً عدة: الأولى، أنه على رغم هذه المخالفات والجرائم التي تقوم بها ميليشيات الحشد الشعبي، إلا أنها لا تملك آيديولوجيا الإبادة التي تتبناها داعش، ومن يساوي بين الاثنين يقلل من حجم ما تعرض له الإيزيديون العراقيون على يد «داعش»، كما أنه يغفل أن الحشد الشعبي يضم بين صفوفه مقاتلين من طوائف أخرى.
هذا النوع من الحجج ضعيف، ذلك لو أردنا المقارنة لوجدنا أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يتمتع بآيديولوجيا الإبادة نفسها التي كان يتبناها هتلر، إلا أن هذا لم يمنع السوفيات من استهداف وقتل أكثر من الذين قتلهم هتلر. لكن فنر، ولأنه يخاطب الغربيين، يعلم جيّداً أن حساسية القتل على الهويّة أشد تأثيراً من كميّة القتلى، فاستهداف بضع مئات من الإيزيديين (قليلي العدد) أهون وأخف في هذا الميزان الهوياتي من استهداف آلاف السنة الأكثر عدداً. بمعنى آخر: من يستهدف الأقليات المذهبية الصغرى أشد إجراماً من الذي يستهدف الأقليّة الكبرى.
عندما سقطت الموصل، كان الحديث الذي ساد في الإعلام العربي أن الموصل سقطت بأيدي «ثوّار العشائر» وبعض من عناصر «داعش». كان العراقيون الموالون للحكومة، ومن بينهم فنر، يسخرون من هذا التوصيف، وكانوا يعتبرون وجود بضعة مقاتلين أو بضعة كتائب عشائرية تقاتل إلى جانب داعش لا يغيّر من حقيقة أن «داعش» هي الفاعل الأكبر والرئيس. الآن فنر يقوم بما كان يسخر به نفسه، أي المبالغة في التشديد على وجود عشرات المقاتلين من الطوائف الأخرى ليثبت أن الحشد ألطف من «داعش».
إلى هذه الحجج، يضيف فنر حجة أخرى: أن «داعش» رؤيتها شمولية، تريد تغيير كامل النظام الاجتماعي والسياسي القائم، في حين أن ميليشيات الحشد -وإيران من ورائها- لا تسعى إلا إلى تحقيق نصر استراتيجي ضمن النظام القائم.
وهذه الحجة مراوغة، إذ لو أخذنا التعريف الذي يقترحه فنر للشمولية على محمل الجد، فإننا لن نجد أكثر من الحكومة الأميركية وعملائها العراقيين من الذين قاموا بتفكيك الدولة العراقية (حلّ الجيش، وحظر الحزب الحاكم وتفكيكه، وإلغاء الطبقة البيروقراطية القائمة) ودفعها نحو الحرب الأهلية الطاحنة، وشن حملات تطهير عرقي وتغيير ديموغرافي في بغداد وغيرها. ومن هنا تصبح ميليشيا الحشد دفاعاً عن ذاك البرنامج الشمولي، ومن ثم لا تختلف في شموليتها بشيء عن «داعش»، بل فرقها أنها تدافع عن مشروع بدأ مبكراً.
آخر ما في جعبة فنر من حجج، هو حجة الضرورة: أنه لا يوجد اليوم إلا الحشد، ومن ثم كل من يهمه بقاء الحكومة العراقية سيجد نفسه مضطراً إلى دعم الحشد. وهذه حجة باطلة من ثلاثة أوجه، أولها: أن الحكومة التي تعتمد في وجودها على دعم الميليشيات قد كفّت عن أن تكون حكومة؛ لأنها عاجزة عن القيام بأبسط مهامها- حماية الناس. وثانيها: أن مثل هذه الحجة ستدان أخلاقياً عندما يرفعها أبناء السنة في العراق في تبريرهم لدعم داعش باعتبارها الكيان الوحيد الذي يمكن أن يحميهم من بطش المالكي وحكومته.
وأخيراً، أنها تفتح الباب للحرب الأهلية، إذ من الواضح أن ليس كل العراقيين مفتونون ببقاء الحكومة، ومن ثم سيكون تقويمهم لمن سيضطرون إلى التحالف معه مختلفاً بالضرورة.
ما الحل؟ الجواب صعب، فالعراقيون بين مطرقة الحشد وسندان «داعش». كلا الخيارين بائس، كلا الخيارين طائفي. الحكومة ضعيفة، والبلد ساحة نفوذ إقليمي. إلا أن من المهم التأكيد على أن صعوبة الجواب لا يعني مبرراً لاختيار عشوائي بين الاثنين، فكما أن قسوة جرائم «داعش» في سورية، لا تبرر الارتماء في أحضان الأسد، فهذه الجرائم أيضاً لا تبرر الارتماء في أحضان الحشد.
الكاتب : سلطان العامر