رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,704
- الإقامة
- مصر
قراءة فى كتاب فتية الكهف
الكتاب تأليف محمد مهدي الآصفي وقد استهل الكتاب بما سماه المؤلف أجواء القصة:
"أجواء القصة:
من هم هؤلاء الفتية؟ الرواية التاريخية تقول إنهم من شباب القصر، وشباب القصر نموذج خاص من الشباب، يعيشون اجواء التحلل والترف والفتنة والفساد، وليس يتوفر لأحد من الفتنة والفساد ما يتوفر لشباب القصر، حيث ينعمون بالمال ويعيشون الترف والفراغ، وكل ذلك مفسدة للشباب وليس شيء في حياة الإنسان من أسباب الاغراء والفتنة يؤدي إلى التحلل والفساد مثل أجواء القصر
ففي قصة يوسف (ص) ، وأنها أقدمت على خيانته، وشهد على ذلك شاهد من أهلها، لم يزد على أن قال: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك) ويضاف إلى ذلك أن هذه المنطقة كانت مقرا لسلطان الملك الوثني الذي اضطهد النصارى بحدود سنة (250م)، وهو الملك داقيوس أو داقينوس أو داقيانوس، وكانت سلطته في هذه الفترة من التاريخ سلطة واسعة، وإذا اضيف الترف إلى (السلطان) كان تربة خصبة للفساد
في مثل هذه الاجواء كان يعيش فتية أهل الكهف، ينعمون بالمال والسلطان، ويعيشون حياة البذخ والترف
وهذا هو البعد الأول من الموضوع ولابد من أن نضيف إلى هذا البعد البعد الثاني لاجواء القصر; حتى تكتمل صورة الجو النفسي والوسط الاجتماعي الذي كان يعيشه هؤلاء الفتية
لقد كانوا يعيشون دور الشباب من حياتهم يقول الله تعالى عنهم: (إنهم فتية)، وفي مرحلة الشباب تنفتح الغرائز، وتلتهب الاهواء والشهوات، وينجذب الإنسان فيها إلى الفتن بقوة لا يعرفها الإنسان في أية فترة أخرى من حياته، وهذه الفترة من حياة الناس فترة طيش وتحلل عادة
في مثل هذه الاجواء النفسية والاجتماعية، كان يعيش هؤلاء الفتية تحت سلطان الاهواء، داخل نفوسهم من جانب، وفي ظل الفتن في ساحة الحياة من جانب آخر"
البداية خاطئة فلا يوجد دليل على كون أهل الكهف كانوا من الأغنياء أو من شباب القصر بتعبير الآصفى وغالبا لا يؤمن أحد من الأغنياء أو أهل القصر بتعبير الرجل إلا نادرا مثل زوجة فرعون وفى هذا قال تعالى "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"
وأتباع الأنبياء كانوا دوما من المحتاجين والفقراء
وحكاية كون أهل الكهف كانوا يعيشون فى عهد ملك يسمى داقيوس أو داقينوس أو داقيانوس حسب تعبير الآصفى أو حتى دقلديانوس لا دليل عليها من الوحى ولا هى تهمنا فى شىء فقومهم حسب القرآن كانوا كفرة كما قال تعالى :
"هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه إلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين"
ومن ثم فلم يكونوا نصارى مضطهدين ولا غير ذلك لأنهم كانوا يعبدون آلهة متعددة
وتحت عنوان الإيمان قال :
" الإيمان:
يقول تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم) إن الإنسان يخترق حصار المادة والحس إلى رحاب الغيب بالايمان وحصار الحس حصار ضيق، ورحاب الغيب رحاب واسعة، ومن بؤس الإنسان وشقائه أن يبقى سجينا محاصرا في مساحة الحس، ولا يتمكن أن يخترق هذا الحصار إلى الغيب وعامل الاختراق هو المعرفة، ونتيجة المعرفة هي الايمان
والإيمان بالغيب أهم أبعاد شخصية الإنسان يقول تعالى: (آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) وقد جعل الله تعالى الايمان تحت اختيار الإنسان، وسلطان ارادته بصورة كاملة في الحالات السوية له; فهو مسألة عقلية نفسية داخلية، وخاضعة لسلطان ارادة الإنسان ولكن الطاغوت يحاول أن يسلب ارادة الناس، ويجردهم من القدرة على الاختيار، فيطيعونه حتى في الايمان والتشخيص والعرفان والانكار، وليس فقط في الطاعة والتبعية في النظام والاعمال بل ينكرون ما ينكره الطاغوت ولو كان معروفا، ويعرفون ما ينكره الطاغوت ولو كان منكرا، ويرون الاشياء والالوان والقيم كما يراها الطاغوت، ويؤمنون ويكفرون كما يريد الطاغوت وقد انكر فرعون على السحرة إذ آمنوا بموسى (ص) دون أن يستأذنوه (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) وهذا هو ما يطلبه الطاغوت من الناس، وأقصى مراحل الاستكبار والاستضعاف فاذا اخترق الناس حصار الارهاب والتبعية الذي يفرضه المستكبرون، ثارت ثائرتهم، واعتبروا ذلك اختراقا لسلطانهم ونفوذهم، وهددوا، وتوعدوا، وعذبوا، واضطهدوا الذين تجرأو أن يفكروا ويتعقلوا الاشياء بانفسهم من دون استئذان وقد كان جزاء سحرة فرعون عندما آمنوا بالله تعالى من دون استئذان فرعون أن قطع أيديهم وارجلهم من خلاف: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) "
وكل ما سبق لا علاقة بالقصة موضوع الكتاب ثم قال:
"وقد كان الشوط الأول من التمرد في حياة هؤلاء الفتية، أن آمنوا بالله من غير استئذان الملك، وسمحوا لأنفسهم أن يفكروا ويتعقلوا الاشياء كما تعقلها عقولهم، وتهواها قلوبهم، لا كما يعقلها الملك ويهوى
وكان هذا الايمان محظورا في اجواء القصر أشد الحظر، ممنوعا أشد المنع ومن عجب أن القصر بقدر ما يضم بين جدرانه من التحلل من القيم، والفساد، يضم كذلك الارهاب الفكري والسياسي بابشع صوره
والايمان بالله هو بداية التمرد، وتكون هذه البداية داخل النفس ورغم ذلك، لا يعفي الطاغوت صاحبه من العقوبة والاضطهاد وهذه البداية هي أشق مراحل التمرد وليس في مراحل التمرد السياسي والحركي مرحلة أشق من الايمان، والمشقة هنا نفسية داخلية، فإذا آمن الإنسان، واخترق جدار الارهاب، هانت عليه الأشواط اللاحقة من العمل
واستطاع هؤلاء الفتية اجتياز هذه العقبة، واستطاعوا أن يغافلوا الطاغية ويفاجئوه بايمانهم، ويواجهوه بالامر الواقع
وهذه هي المرحلة الاولى من التمرد"
الآصغى هنا مصر على كون أهل الكهف من شباب قصر الملك وهو كلام كما قلنا لا يتفق مع كون المؤمنون دوما ممن هم فى احتياج وفقر إلا فى حالات شاذة لا يمكن القياس عليها فلو قال ان أحدهم من الأغنياء لكان كلاما معقولا ولكن أن يكونوا جميعا من الطبقة التى هى تحارب الإسلام دوما فى كل العصور فهو شىء لايصدق
ثم قال:
"القيام والنهضة
يقول تعالى: (إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)
الرواية التاريخية لا تذكر في قصة هؤلاء الفتية أنهم ثاروا وقاموا وأعلنوا التمرد في اجواء القصر، وتكتفي بقصة ايمانهم وهجرتهم إلى الكهف ولكن القرآن يروي القصة الكاملة، ويؤكد أن هؤلاء الفتية قاموا وثاروا في أجواء القصر، واعلنوا التمرد، واخترقوا جو الارهاب الحاكم في القصر يقول تعالى: (إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض)
ودوت هذه الصرخة في اجواء القصر، ومزقت السكوت الرهيب الذي كان يفرضه الدكتاتور داقيوس، فأرعبته وهزت عرشه بقوة وقد تضمنت هذه الصرخة:
1 ـ الدعوة إلى الله رب السموات والأرض: (ربنا رب السماوات والأرض)
وكان الحاكم داقيوس قد حجبهم بمكره عن رب السموات والأرض، فلما عرفوا أن رب السموات والأرض هو ربهم أعلنوا ذلك بقوة
2 ـ الرفض للطاغوت والاصنام والآلهة التي يتخذها الناس من دون الله: (لن ندعو من دونه إلها) وفي هذه النقطة يكمن ظل التحدي والتمرد، ويكمن سخط وغضب الجبابرة والطغاة، ويكمن كل عذاب واضطهاد الدعاة إلى الله
3 ـ التقبيح والإنكار على من يقول بالوهية احد غير الله: (لقد قلنا إذن شططا)
4 ـ الاحتجاج على قومهم، ومطالبتهم بالبينة والحجة على ما يقولون: (لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)وأشد ما يكون الامر على الطاغية أن تتفجر الثورة والتمرد من داخل قصره، كما حصل للحاكم داقيوس في قصره، وكما حصل لفرعون عندما اعلن موسى (ص) وهو ربيب قصره، الدعوة إلى الله تعالى
إن الطاغية في هذه الحالة يفقد الثقة بكل أحد في قصره، ويهتز عرشه وكبرياؤه بقوة، ولا يعود يثق بأحد من بلاطه وحاشيته، ولا يعود يثق به أحد، ويفقد بذلك هيبته وشموخه بعد أن ارتفعت الدعوة إلى الله من داخل جدران قصره وليس شيء يثير الظالمين والمستكبرين كمن يسلبهم هيبتهم ; فإن هؤلاء الطغاة يحكمون الناس بهذه الهيبة، وهي هيبة كاذبة بالتأكيد، ولكنهم يبذلون كل ما في وسعهم لتثبيتها بالبطش والقتل والسجن والتعذيب، فإذا هابهم الناس تحكموا في رقابهم، وفرضوا عليهم ما يريدون من معيشة ونظام وعمل وفكر وثقافة ودين ونظرية الظالمين في الحكم هي (اكذب حتى يصدقك الناس، وارعب حتى يرهبك الناس)فإذا تعرض احدهم لاسقاط هيبة الطاغية ثارت ثائرته وطاش صوابه; لأنه يسلب بذلك كل شيء في ملكه وسلطانه"
يصر الرجل على وجود ملك فى القصة مع أن القرآن لم يذكر الملك وتعبير القرآن على لسانهم واضح وهو قومنا أى أن المجتمع كله كان يعبد آلهة متنوعة والدعوة تهز المجتمع كله وليس مجرد من فى القصر فحتى المعوزين والطبقة الوسطى يعارضون الدعوة باعتبارها تسفيها لعقولهم وسب لآباءهم بعدم العقل ومن ثم يقف المجتمع كله فى البداية فى وجه الدعوة مكذبا إياها ولكن الأشد فى مواجهة الدعوة هو الأغنياء لأنها تقويض للنظام المالى القائم على الظلم حيث تريدالدعوة تطبيق العدل فى الأقوات حسب ما قال الله حيث لا يوجد غنى ولا فقير كما قال تعالى " سواء للسائلين"
ثم قال :
"إن صرخة حق صريحة وواضحة وجريئة في وجه الطاغية، تعادل سنين من العبادة عند الله وقد ورد في الحديث: ((إن كلمة حق عند سلطان جائر تعادل عبادة سبعين سنة))وسر هذه القيمة لكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، أن هذه الكلمة تسقط الظالم، وتجرئ الآخرين عليه، وتزعزع ثقته بكل شيء حتى بنفسه
وما من شيء يعكر صفو حياة الظالم، ويسلب عنه راحته واستقراره، ويطرد النوم من عينيه ويؤرقه، مثل كلمة حق جريئة يعلنها المظلوم في وجهه وسيرة الموحدين على طول التاريخ طافحة بالامثلة الحاكية لذلك، خصوصا في سيرة أهل البيت واتباعهم المخلصين منها ما روي مسندا عن يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي الكوفة من منزلي، فلقيني أبو بكر بن عياش فقال لي: امض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعته، وكان راكبا حمارا له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إلي وقال: يا ابن الحماني، إنما جررتك معي وجشمتك ان تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذه الطاغية قال: فقلت: من هو يا أبا بكر؟ قال: هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى فسكت عنه ومضى وأنا أتبعه، حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبو بكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الأزرار قال: فدخل على حماره وناداني: تعال يابن الحماني فمنعني الحاجب فزجره أبو بكر وقال له: أتمنعه يا فاعل وهو معي؟! فتركني، فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره، وبجنبتي السرير رجال متسلحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومنعت أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلما استقر أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف، فناداني فقال: ويحك! فصرت إليه ونعلي في رجلي وعلي قميص وإزار، فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل تكلمنا فيه؟ قال: لا، ولكني جئت به شاهدا عليك قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر قال: أي قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله (ص) وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع ارض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها فانتفخ موسى حتى كاد أن ينقد، ثم قال: وما أنت وذا؟ قال: اسمع حتى أخبرك
ثم ذكر له رؤيا طويلة تتضمن خروجه إلى قومه بني غاضرة، واعتراض عشرة خنازير له، وتخلصه منها برجل من بني أسد، وسيره إلى نينوى وتشرفه بالحائر الشريف، وأن على الباب منه جماعة كثيرة، فأراد الدخول فقال له الآذن: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت; لأنه كان وقت زيارة ابراهيم خليل الله ومحمد رسول الله، ومعهما جبرائيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير، وأنه انتبه وجرى له في اليقظة مثل ما رأى في النوم، إلا أن الخنازير كانت في اليقظة عشرة من اللصوص، وفي دخوله الحائر لم يكن هناك آذنفقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك، وتالله إن بلغني بعد هذا الوقت أنك تحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهدا علي فقال له أبو بكر: إذن يمنعني الله وإياه منك; فإني إنما أردت الله بما كلمتك به فقال له: أتراجعني يا ماص؟! وشتمه، فقال له: اسكت أخزاك الله وقطع لسانك فأزعل موسى على سريره ثم قال: خذوه فأخذوا الشيخ عن السرير وأخذت أنا، فو الله لقد مر بنا من السحب والجر والضرب ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبدا وكان أشد ما مر بي من ذلك أن رأسي كان يجر على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: اقتلوهما ابني كذا وكذا ـ بالزاني لا يكني ـ وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك اللهم إياك أردنا ولولد نبيك غضبنا، وعليك توكلنا فصير بنا جميعا إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلا قليلا، فالتفت إلي أبو بكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي فقال: يا حماني، قد قضينا لله حقا واكتسبنا في يومنا هذا أجرا، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله"
خرج الآصفى عن سياق القصة كما فعل سابقا وحكى حكايةعن مواجهة الحاكم وليس عن مواجهة القوم جميعا وهى مواجهة أعظم صعوبة
ثم قال:
طالاعتزال
يقول تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فاووا إلى الكهف) سيظهر لنا من هذا الجزء من الآية، أنه كان لهؤلاء الفتية بعد الايمان بالله اعتزال وأوي إلى الكهف والثاني غير الأول بظاهر الآية وإذا أردنا أن ننظم مراحل عمل هؤلاء الفتية نستطيع أن نقول: إنهم آمنوا أولا، ثم قاموا فقالوا: (ربنا رب السماوات والأرض) ثانيا، ثم اعتزلوا قومهم وما يعبدون إلا الله ثالثا، ثم أووا إلى الكهف رابعا
إذن الاعتزال غير الأوي إلى الكهف; فقد اعتزلوا قومهم وما يعبدون إلا الله قبل أن يأووا إلى الكهف وأقرب معاني الاعتزال في هذه الصورة أنهم قاطعوا مجتمع القصر، ولم يخالطوهم كما كانوا يخالطونهم من قبل، ولم يعاشروهم كما كانوا يعاشرونهم من قبل، وهذه الحالة هي حالة الانفصال والمقاطعة النفسية والبراءة وفي هذه الحالة ينتزع الإنسان نفسه من الوسط الذي يعيش فيه انتزاعا كاملا، رغم أنه يعيش في نفس الوسط، ويدخل معهم في الاسواق ويعاملهم ويتعاطى البيع والشراء والدراسة والعمل في الاسواق والدوائر والمدارس معهم، لكنه لا يتأثر ولا يخضع لمؤثرات الوسط الثقافية والحضارية والسياسية مطلقا، وكأن بينه وبين هذه المؤثرات في ذلك الوسط عازلا قويا، يقطع كل تأثير من الوسط الذي يعيش فيه علما بأن للوسط الحضاري والثقافي والاعلامي الذي يعيش فيه الإنسان تأثيرا قاهرا على عقله وقلبه والمؤمن الذي يعيش في وسط غير وسطه، وفي غربة حضارية وثقافية واجتماعية، يستهلكه لا محالة الوسط الذي يعيش فيه، وتقهره العوامل الثقافية والحضارية والإعلامية على الاندماج العقلي والعاطفي في هذا الوسط ; كما لو صببنا كأسا من الماء العذب الحلو في بحيرة مالحة، فإن البحيرة تستهلكه لا محالة وهذا الحكم يجري في المجتمع كما يجري في التفاعلات الفيزيائية، من غير فرق إلا أن يعزل المؤمن نفسه بعازل نفسي قوي عن المؤثرات والعوامل القاهرة في ذلك الوسط، فعندئذ يعيش في ذلك الوسط في حصانة كاملة، رغم أنه يمكن أن يتعاطى في ذلك الوسط كل ما يتعاطاه الناس من شؤون عمله ومعيشته وهذا هو حال الإنسان المؤمن عندما يعيش في حالة غربة حضارية وثقافية في مجتمع غير مجتمعه، كما حدث ذلك للمسلمين في بدء ظهور الإسلام في مكة"
نجح الآصفى هنا فى التعبير هن حكاية الاعتزال وهى اعتزال طاعة قوانين المجتمع لطاعة أحكام الله وليس اعتزال الناس فى المعيشة وكعادته ذهب بنا بعيدا عن سياق القصةبحديثه عن الغزو الثقافى الحالى ومايقوم به المعتزلون حاليا فقال:
" وكما حدث ذلك في عصرنا في فترة الغزو الثقافي، والغارة الحضارية التي تعرضت لها بلادنا في العالم الإسلامي، ثم بدأت بالانحسار والحمد لله وهو على ما اعتقد تفسير لقوله (ص) ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء))
ومن الطبيعي أن الإنسان إذا كان غريبا في بيئة، يأخذ بالأنس والاندماج النفسي بتلك البيئة ثقافيا وحضاريا بالتدريج، ولكن هذا الاندماج العقلي والعاطفي مع الأوساط الجاهلية يؤدي إلى استهلاك الحالة الإيمانية بالتدريج، فلابد أن يفصل نفسه في مثل هذه الحالة بعازل نفسي قوي عن المؤثرات الثقافية والحضارية في ذلك الوسط، في الوقت الذي يمارس فيه نشاطه في السوق والجامعة والدوائر والشارع بشكل طبيعي، كما لو لم يكن بينه وبين ذلك المجتمع عازل من هذا النوع وفي مثل هذه الحالة يتحرر الإنسان بشكل كامل من مؤثرات الوسط الذي يعيش فيه، في الوقت الذي يؤدي فيه دوره العملي في المجتمع بصورة كاملة وشأن هذا العازل شأن العازل في الفيزياء; فالعامل الذي يمارس عمله في مد الأسلاك الكهربائية، يمكن أن يمارس عمله بصورة طبيعية في أخطر الحالات، إذا كان يستخدم العازل الذي يعزله عن التيار الكهربائي وهذه الحالة من المفاصلة النفسية حالة صعبة من دون ريب، وليس أشق على الإنسان من أن يعيش في المجتمع حياة طبيعية، يدخل ويخرج مع الناس في مداخل الحياة ومخارجها، في الوقت الذي ينتزع فيه نفسه من ذلك الوسط انتزاعا كاملا وهذه هي الهجرة الكبرى في حركة الإنسان إلى الله، والهجرة في المساحة الجغرافية من مكان إلى مكان هي الهجرة الصغرى ورغم كل المتاعب والمشاكل التي تستتبعها الهجرة الصغرى، فإنها دون الهجرة الكبرى بمراحل وقياس الهجرة الكبرى إلى الهجرة الصغرى مثل قياس الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر ; فإنه رغم كل متاعب الجهاد الأصغر، وما يتطلبه من التضحية والقتل في سبيل الله وإنفاق الأموال والأنفس، فإن الجهاد الأكبر ـ داخل النفس ـ أصعب وأشق بمراحل كثيرة من الجهاد الأصغر"
ونحن عنوان التقوى عازل استمر الرجل فى بعده عن سياق القصة فقال:
"التقوى عازل:
وبمناسبة الحديث عن العازل النفسي أقول: إن التقوى من اقوى العوازل النفسية التي تحمي الإنسان من (الاهواء) و (الفتن) ولسنا نعرف عازلا اقوى من هذا العازل والتقوى لباس يحفظ الإنسان من الاهواء والفتن، كما أن اللباس يحفظ الإنسان من الحر والبرد ومن اعين الناس، ويستر سوأة الإنسان يقول تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير)، فاذا حفظ الإنسان نفسه بملابس واقية ودافئة، فليس عليه بأس أن يخرج من البيت في يوم شديد البرد، فلا يمسه ولا يضره من البرد شيء، وكذلك الإنسان إذا تسلح بالتقوى، فليس عليه بأس من سلطان الهوى والفتن
\ولو أن الناس خرجوا إلى الشارع من دون ملابس تستر سوآتهم، لأشبهوا الحيوانات، ولكن الله تعالى أكرم الإنسان باللباس الذي يستر سوأة جسمه، فكذلك التقوى لباس يستر سوأة النفس من الاهواء والشهوات والغرائز، فيلطفها ويعدلها ويرققها بالشكل الذي يناسب كرامة الإنسان والتقوى حصن يحصن الإنسان من الاهواء والفتن والشياطين، كما أن الحصون تحمي الناس من سطو الاعداء وبطشهم يقول امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: ((إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل)) فالتقوى حصن منيع يمنع الاعداء من البطش والسطو، والفجور حصن ذليل، لا يمنع احدا ولا يحفظ من عدو
وكما أن الإنسان لو تحصن بحصن منيع لما خاف عدوا ولا سارقا، ولا سبعا ضاريا، كذلك من تحصن بحصن التقوى يقول امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: ((عباد الله، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه))
وإذا اصبح الإنسان في حمى الله بالتقوى من الاهواء والفتن والشياطين، فلا يمسه منها سوء ولا أذى، وليس للهوى والشيطان عليه سلطان
وأهم من ذلك كله أن التقوى تمنح صاحبها قدرة على الانتباه المبكر، فإذا تعرض الإنسان لخطر سطو الشيطان تذكر فورا، وأخذ العدة الكاملة لمواجهة الشيطان والهوى
ارأيت اجهزة الانذار المبكر؟ كذلك التقوى، فلا يتمكن الشيطان أن يغزو الإنسان على حين غرة وغفلة يقول تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)
وإن الشيطان لا يقتحم عليهم قلوبهم، وإنما يمسهم طائف منه فقط
فإذا مسهم من الشيطان طائف تذكروا فورا، وبصورة مبكرة، فإذا هم مبصرون ولن يستطيع الشيطان أن يقتحم على أحد قلبه وصدره وعقله، وهو في مثل هذه الدرجة العالية من التذكر والبصيرة، والقدرة على المواجهة"
انتهى مقال التقوى عازل وهو لا علاقة له بالقصة حيث لم يذكر أهل الكهف أبدا فى المقال ثم قال:
"الأوي إلى الكهف:
يقول تعالى: (فأووا إلى الكهف) ذكرنا أن الأوي إلى الكهف غير الاعتزال، والآية الكريمة صريحة في ذلك
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فاووا إلى الكهف)
الاعتزال مقاطعة نفسية، والأوي إلى الكهف هجرة، والاعتزال والهجرة يكمل احدهما الآخرغير أن الاعتزال من الهجرة الكبرى، والأوي إلى الكهف من الهجرة الصغرى والهجرة الكبرى تجري داخل مساحة النفس، والهجرة الصغرى في الرقعة الجغرافية من الأرض، ولا تقاس الهجرة الكبرى بالهجرة الصغرى ; فإن الاعتزال والمقاطعة النفسية جهد نفسي شاق، في انتزاع النفس وتحريرها من سلطان الأهواء والمغريات، والهجرة الصغرى جهة لانتزاع الإنسان نفسه من الوسط الاجتماعي الذي يألفه، والعلاقات الاجتماعية والأسرية، والموقع الاجتماعي والاقتصادي، وهذه المجموعة هي مجموعة (الوشائج) التي يرتبط الإنسان عن طريقها بالمجتمع والوسط الاجتماعي بينما في الهجرة الكبرى ينتزع الإنسان نفسه من الأهواء العميقة النفسية، وهي (الولائج) المتحكمة والمؤثرة داخل النفس والفرق بين الهجرتين هو الفرق بين (الوشائج) و (الولائج) ; فإن الهجرة الكبرى هي مقاومة الولائج وانتزاع النفس منها، بينما الهجرة الصغرى هي انتزاع النفس من مجموعه الوشائج ولا شك أنه عملية صعبة، ولكن شتان بين الانتزاعين: أن ينتزع الإنسان نفسه من الولائج المتحكمة في نفسه، وأن ينتزع نفسه من الوشائج التي تربطه بالوسط والمجتمع ولا شك أن الأول أشق من الثاني بكثير
إن الهدف من الهجرة الكبرى تحرير النفس من سلطان الاهواء والهدف من الهجرة الصغرى أن يخرج الإنسان من دائرة سلطان الطاغوت ونفوذه ; فإن الطاغوت لا يطيق الدعوة إلى الله تعالى في دائرة نفوذه وسلطانه، بكل شكل; لأن هذه الدعوة تصادر ـ في النتيجة ـ كل سلطانه ونفوذه، وهو يشعر بعمق هذه الدعوة، ولذلك لا يكاد يسمح لأحد أن ينهض بالدعوة إلى الله في دائرة نفوذه وسلطانه، ويعمل لخنق كل صوت والقضاء على كل من يحمل هذه الرسالة إلى الناس، من دون رحمة، ومن دون تردد ولذلك فمن الخطأ في مثل هذه الحالة ألا يهاجر من دائرة نفوذ الطاغوت، ولا يفر بدينه، ويبقى في متناول بطش الظالم وسطوته; فإنه في هذه الحالة لابد أن يؤول حاله إلى احد أمرين: إما الخضوع لإرادة الطاغية والتخلي عن موقع الدعوة إلى الله، أو أن يمكن الطاغية من رقبته وكل منهما خسارة والصحيح هو أن يهاجر بدينه من قبضة الظالم وهذا هو معنى (الأوي إلى الكهف) في قصة الفتية
الجزاء"
رغم حديث الرجل عن طلب أحدهم أن يذهبوا للكهف ليس هروبا وإنما يأسا من إيمان القوم فقد استمر فى الفقرة التالية فى البعد عن سياق القصة فقال:
"من رقائق الثقافة الاسلامية العلاقة بين الجزاء والعمل ومساحة الجزاء هي الدنيا والآخرة، ومساحة العمل هي الدنيا فقطولابد لكل عمل من جزاء، ولا ينفك العمل عن الجزاء وبتعبير أدق: العمل يستبطن الجزاء، والجزاء من سنخ العمل يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) إن الذي يجاهد في الله، ويسعى إلى تحقيق مرضاة الله، يهديه الله سبل مرضاته، ويعينه الله على تحقيق مرضاته والوصول إليها"
ثم عاد للسياق فقال:
"وفي آيات سورة الكهف نجد أن هؤلاء الفتية لقوا جزاء عملهم عاجلا في الدنيا في ثلاث مراحل: في مرحلة الايمان بالله يقول تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى) ، وفي مرحلة القيام والنهضة واعلان التمرد على الطاغية يقول تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها) ، وفي مرحلة الأوي إلى الكهف يقول تعالى: (فاووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)
فلنتأمل في هذه المراحل الثلاثة من الجزاء
في المرحلة الاولى:
لما آمنوا بالله زادهم الله تعالى هدى على هداهم وهنا الجزاء من جنس العمل; بوضوح أن الايمان هداية، فإذا اهتدى الإنسان بهدي الله زاده الله تعالى هدى على هداه كما أن الإنسان إذا اختار سبيل الضلالة يعاقبه الله، فيزيده ضلالا على ضلاله يقول تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) "
نلاحظ هنا الفهم الخاطىء بزيادة الإيمان فمعنى زيادة الإيمان هى الاستمرار على الإيمان والعمل به فالهدى واحد وهو لا يتغير وهو الوحى ثم قال:
"وفي المرحلة الثانية:
(وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) وليس من شك أن هذا القيام وتلك الدعوة لا يتمان من دون قوة قلب ورباطة جأش فإذا قاموا بهذه الدعوة في وجه الطاغية، آتاهم الله المزيد من رباطة الجأش، وربط على قلوبهم: (وربطنا على قلوبهم) يعني قوينا قلوبهم، ولولا أن الله تعالى يقوي قلب عبده، لما تمكن من مثل هذه الحركة الجريئة والشجاعة، ولا استطاع أن يواجه الطاغية بمثل هذه القوة، بل ما استطاع أن يتخذ القرار بذلك ; فإن الخطوة الاولى في مثل هذه الاعمال الكبيرة هي اتخاذ القرار والنية والعزموسلام الله على الامام الصادق حيث يقول: ((لا يضعف جسد عما قويت عليه النية)) فإذا قوي الإنسان على النية والعزم والقرار، هانت عليه المراحل الاخرى من العمل، وأعانه الله عليها وشد على يدهولكن لابد من أن يقوم وينهض ليشد الله على يده، فإن لم يقم ولم يحاول لا يرزقولولا دعم الله تعالى وتأييده لأولئك الفتية الذين نهضوا في جو القصر بالدعوة إلى الله، لم يتمكن أي منهم أن يقوم فيقول في وجه الطاغية: (لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا)
ولا شك أن العزم والنية أيضا لا تتم إلا بتأييد الله تعالى ودعمه، فإن الله تعالى يسبغ تأييده ودعمه واسناده على عبده مرتين: مرة للنية والعزم والقرار والوقوف، وهذا عام شامل لكل الناس، ومن الناس من ينتفع بهذا الرزق الإلهي الشامل، ومن الناس من يفرط فيه، ويضيعه، ومرة أخرى ينزل دعمه واسناده على الذين يعزمون، وينهضون ويقومون، وهذا رزق خاص، يخص به الله تعالى الذين يقومون وينهضون برسالة التوحيد
وفي المرحلة الثالثة:
يقول تعالى: (فاووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)
والحمد لله الذي ارانا صدق وعده فيما رزقنا من ابتلاء الهجرة; فقد وجدنا ماوعدنا ربنا حقا، ونشر لنا من رحمته، وهيأ لنا من أمرنا مرفقا وصدق الله العلي العظيم وكل الذين ابتلاهم الله تعالى بالهجرة وجدوا صدق وعد الله، بما فتح الله تعالى لهم من أبواب رحمته وآفاق العمل والحركة، وفيما هيأ لهم من المرافق في حركتهم وعملهم والحمد لله رب العالمين"
ونلاحظ هنا أن الرجل لم يذكر القصة كاملة فقد اكتفى بطلب الايواء إلى الكهف وأما بقية القصة من نومهم وكلبهم وما تلا ذلك حتى بعثهم وموتهم مرة أخرى فلم يذكرها مع ان الكتاب هو أن عن أهل الكهف وهو قصور فى الكتاب كان ينبغى تداركه
الكتاب تأليف محمد مهدي الآصفي وقد استهل الكتاب بما سماه المؤلف أجواء القصة:
"أجواء القصة:
من هم هؤلاء الفتية؟ الرواية التاريخية تقول إنهم من شباب القصر، وشباب القصر نموذج خاص من الشباب، يعيشون اجواء التحلل والترف والفتنة والفساد، وليس يتوفر لأحد من الفتنة والفساد ما يتوفر لشباب القصر، حيث ينعمون بالمال ويعيشون الترف والفراغ، وكل ذلك مفسدة للشباب وليس شيء في حياة الإنسان من أسباب الاغراء والفتنة يؤدي إلى التحلل والفساد مثل أجواء القصر
ففي قصة يوسف (ص) ، وأنها أقدمت على خيانته، وشهد على ذلك شاهد من أهلها، لم يزد على أن قال: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك) ويضاف إلى ذلك أن هذه المنطقة كانت مقرا لسلطان الملك الوثني الذي اضطهد النصارى بحدود سنة (250م)، وهو الملك داقيوس أو داقينوس أو داقيانوس، وكانت سلطته في هذه الفترة من التاريخ سلطة واسعة، وإذا اضيف الترف إلى (السلطان) كان تربة خصبة للفساد
في مثل هذه الاجواء كان يعيش فتية أهل الكهف، ينعمون بالمال والسلطان، ويعيشون حياة البذخ والترف
وهذا هو البعد الأول من الموضوع ولابد من أن نضيف إلى هذا البعد البعد الثاني لاجواء القصر; حتى تكتمل صورة الجو النفسي والوسط الاجتماعي الذي كان يعيشه هؤلاء الفتية
لقد كانوا يعيشون دور الشباب من حياتهم يقول الله تعالى عنهم: (إنهم فتية)، وفي مرحلة الشباب تنفتح الغرائز، وتلتهب الاهواء والشهوات، وينجذب الإنسان فيها إلى الفتن بقوة لا يعرفها الإنسان في أية فترة أخرى من حياته، وهذه الفترة من حياة الناس فترة طيش وتحلل عادة
في مثل هذه الاجواء النفسية والاجتماعية، كان يعيش هؤلاء الفتية تحت سلطان الاهواء، داخل نفوسهم من جانب، وفي ظل الفتن في ساحة الحياة من جانب آخر"
البداية خاطئة فلا يوجد دليل على كون أهل الكهف كانوا من الأغنياء أو من شباب القصر بتعبير الآصفى وغالبا لا يؤمن أحد من الأغنياء أو أهل القصر بتعبير الرجل إلا نادرا مثل زوجة فرعون وفى هذا قال تعالى "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"
وأتباع الأنبياء كانوا دوما من المحتاجين والفقراء
وحكاية كون أهل الكهف كانوا يعيشون فى عهد ملك يسمى داقيوس أو داقينوس أو داقيانوس حسب تعبير الآصفى أو حتى دقلديانوس لا دليل عليها من الوحى ولا هى تهمنا فى شىء فقومهم حسب القرآن كانوا كفرة كما قال تعالى :
"هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه إلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين"
ومن ثم فلم يكونوا نصارى مضطهدين ولا غير ذلك لأنهم كانوا يعبدون آلهة متعددة
وتحت عنوان الإيمان قال :
" الإيمان:
يقول تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم) إن الإنسان يخترق حصار المادة والحس إلى رحاب الغيب بالايمان وحصار الحس حصار ضيق، ورحاب الغيب رحاب واسعة، ومن بؤس الإنسان وشقائه أن يبقى سجينا محاصرا في مساحة الحس، ولا يتمكن أن يخترق هذا الحصار إلى الغيب وعامل الاختراق هو المعرفة، ونتيجة المعرفة هي الايمان
والإيمان بالغيب أهم أبعاد شخصية الإنسان يقول تعالى: (آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) وقد جعل الله تعالى الايمان تحت اختيار الإنسان، وسلطان ارادته بصورة كاملة في الحالات السوية له; فهو مسألة عقلية نفسية داخلية، وخاضعة لسلطان ارادة الإنسان ولكن الطاغوت يحاول أن يسلب ارادة الناس، ويجردهم من القدرة على الاختيار، فيطيعونه حتى في الايمان والتشخيص والعرفان والانكار، وليس فقط في الطاعة والتبعية في النظام والاعمال بل ينكرون ما ينكره الطاغوت ولو كان معروفا، ويعرفون ما ينكره الطاغوت ولو كان منكرا، ويرون الاشياء والالوان والقيم كما يراها الطاغوت، ويؤمنون ويكفرون كما يريد الطاغوت وقد انكر فرعون على السحرة إذ آمنوا بموسى (ص) دون أن يستأذنوه (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) وهذا هو ما يطلبه الطاغوت من الناس، وأقصى مراحل الاستكبار والاستضعاف فاذا اخترق الناس حصار الارهاب والتبعية الذي يفرضه المستكبرون، ثارت ثائرتهم، واعتبروا ذلك اختراقا لسلطانهم ونفوذهم، وهددوا، وتوعدوا، وعذبوا، واضطهدوا الذين تجرأو أن يفكروا ويتعقلوا الاشياء بانفسهم من دون استئذان وقد كان جزاء سحرة فرعون عندما آمنوا بالله تعالى من دون استئذان فرعون أن قطع أيديهم وارجلهم من خلاف: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين) "
وكل ما سبق لا علاقة بالقصة موضوع الكتاب ثم قال:
"وقد كان الشوط الأول من التمرد في حياة هؤلاء الفتية، أن آمنوا بالله من غير استئذان الملك، وسمحوا لأنفسهم أن يفكروا ويتعقلوا الاشياء كما تعقلها عقولهم، وتهواها قلوبهم، لا كما يعقلها الملك ويهوى
وكان هذا الايمان محظورا في اجواء القصر أشد الحظر، ممنوعا أشد المنع ومن عجب أن القصر بقدر ما يضم بين جدرانه من التحلل من القيم، والفساد، يضم كذلك الارهاب الفكري والسياسي بابشع صوره
والايمان بالله هو بداية التمرد، وتكون هذه البداية داخل النفس ورغم ذلك، لا يعفي الطاغوت صاحبه من العقوبة والاضطهاد وهذه البداية هي أشق مراحل التمرد وليس في مراحل التمرد السياسي والحركي مرحلة أشق من الايمان، والمشقة هنا نفسية داخلية، فإذا آمن الإنسان، واخترق جدار الارهاب، هانت عليه الأشواط اللاحقة من العمل
واستطاع هؤلاء الفتية اجتياز هذه العقبة، واستطاعوا أن يغافلوا الطاغية ويفاجئوه بايمانهم، ويواجهوه بالامر الواقع
وهذه هي المرحلة الاولى من التمرد"
الآصغى هنا مصر على كون أهل الكهف من شباب قصر الملك وهو كلام كما قلنا لا يتفق مع كون المؤمنون دوما ممن هم فى احتياج وفقر إلا فى حالات شاذة لا يمكن القياس عليها فلو قال ان أحدهم من الأغنياء لكان كلاما معقولا ولكن أن يكونوا جميعا من الطبقة التى هى تحارب الإسلام دوما فى كل العصور فهو شىء لايصدق
ثم قال:
"القيام والنهضة
يقول تعالى: (إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)
الرواية التاريخية لا تذكر في قصة هؤلاء الفتية أنهم ثاروا وقاموا وأعلنوا التمرد في اجواء القصر، وتكتفي بقصة ايمانهم وهجرتهم إلى الكهف ولكن القرآن يروي القصة الكاملة، ويؤكد أن هؤلاء الفتية قاموا وثاروا في أجواء القصر، واعلنوا التمرد، واخترقوا جو الارهاب الحاكم في القصر يقول تعالى: (إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض)
ودوت هذه الصرخة في اجواء القصر، ومزقت السكوت الرهيب الذي كان يفرضه الدكتاتور داقيوس، فأرعبته وهزت عرشه بقوة وقد تضمنت هذه الصرخة:
1 ـ الدعوة إلى الله رب السموات والأرض: (ربنا رب السماوات والأرض)
وكان الحاكم داقيوس قد حجبهم بمكره عن رب السموات والأرض، فلما عرفوا أن رب السموات والأرض هو ربهم أعلنوا ذلك بقوة
2 ـ الرفض للطاغوت والاصنام والآلهة التي يتخذها الناس من دون الله: (لن ندعو من دونه إلها) وفي هذه النقطة يكمن ظل التحدي والتمرد، ويكمن سخط وغضب الجبابرة والطغاة، ويكمن كل عذاب واضطهاد الدعاة إلى الله
3 ـ التقبيح والإنكار على من يقول بالوهية احد غير الله: (لقد قلنا إذن شططا)
4 ـ الاحتجاج على قومهم، ومطالبتهم بالبينة والحجة على ما يقولون: (لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)وأشد ما يكون الامر على الطاغية أن تتفجر الثورة والتمرد من داخل قصره، كما حصل للحاكم داقيوس في قصره، وكما حصل لفرعون عندما اعلن موسى (ص) وهو ربيب قصره، الدعوة إلى الله تعالى
إن الطاغية في هذه الحالة يفقد الثقة بكل أحد في قصره، ويهتز عرشه وكبرياؤه بقوة، ولا يعود يثق بأحد من بلاطه وحاشيته، ولا يعود يثق به أحد، ويفقد بذلك هيبته وشموخه بعد أن ارتفعت الدعوة إلى الله من داخل جدران قصره وليس شيء يثير الظالمين والمستكبرين كمن يسلبهم هيبتهم ; فإن هؤلاء الطغاة يحكمون الناس بهذه الهيبة، وهي هيبة كاذبة بالتأكيد، ولكنهم يبذلون كل ما في وسعهم لتثبيتها بالبطش والقتل والسجن والتعذيب، فإذا هابهم الناس تحكموا في رقابهم، وفرضوا عليهم ما يريدون من معيشة ونظام وعمل وفكر وثقافة ودين ونظرية الظالمين في الحكم هي (اكذب حتى يصدقك الناس، وارعب حتى يرهبك الناس)فإذا تعرض احدهم لاسقاط هيبة الطاغية ثارت ثائرته وطاش صوابه; لأنه يسلب بذلك كل شيء في ملكه وسلطانه"
يصر الرجل على وجود ملك فى القصة مع أن القرآن لم يذكر الملك وتعبير القرآن على لسانهم واضح وهو قومنا أى أن المجتمع كله كان يعبد آلهة متنوعة والدعوة تهز المجتمع كله وليس مجرد من فى القصر فحتى المعوزين والطبقة الوسطى يعارضون الدعوة باعتبارها تسفيها لعقولهم وسب لآباءهم بعدم العقل ومن ثم يقف المجتمع كله فى البداية فى وجه الدعوة مكذبا إياها ولكن الأشد فى مواجهة الدعوة هو الأغنياء لأنها تقويض للنظام المالى القائم على الظلم حيث تريدالدعوة تطبيق العدل فى الأقوات حسب ما قال الله حيث لا يوجد غنى ولا فقير كما قال تعالى " سواء للسائلين"
ثم قال :
"إن صرخة حق صريحة وواضحة وجريئة في وجه الطاغية، تعادل سنين من العبادة عند الله وقد ورد في الحديث: ((إن كلمة حق عند سلطان جائر تعادل عبادة سبعين سنة))وسر هذه القيمة لكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، أن هذه الكلمة تسقط الظالم، وتجرئ الآخرين عليه، وتزعزع ثقته بكل شيء حتى بنفسه
وما من شيء يعكر صفو حياة الظالم، ويسلب عنه راحته واستقراره، ويطرد النوم من عينيه ويؤرقه، مثل كلمة حق جريئة يعلنها المظلوم في وجهه وسيرة الموحدين على طول التاريخ طافحة بالامثلة الحاكية لذلك، خصوصا في سيرة أهل البيت واتباعهم المخلصين منها ما روي مسندا عن يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي الكوفة من منزلي، فلقيني أبو بكر بن عياش فقال لي: امض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعته، وكان راكبا حمارا له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إلي وقال: يا ابن الحماني، إنما جررتك معي وجشمتك ان تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذه الطاغية قال: فقلت: من هو يا أبا بكر؟ قال: هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى فسكت عنه ومضى وأنا أتبعه، حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبو بكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الأزرار قال: فدخل على حماره وناداني: تعال يابن الحماني فمنعني الحاجب فزجره أبو بكر وقال له: أتمنعه يا فاعل وهو معي؟! فتركني، فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره، وبجنبتي السرير رجال متسلحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره، ومنعت أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلما استقر أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف، فناداني فقال: ويحك! فصرت إليه ونعلي في رجلي وعلي قميص وإزار، فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل تكلمنا فيه؟ قال: لا، ولكني جئت به شاهدا عليك قال: في ماذا؟ قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر قال: أي قبر؟ قال: قبر الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله (ص) وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع ارض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها فانتفخ موسى حتى كاد أن ينقد، ثم قال: وما أنت وذا؟ قال: اسمع حتى أخبرك
ثم ذكر له رؤيا طويلة تتضمن خروجه إلى قومه بني غاضرة، واعتراض عشرة خنازير له، وتخلصه منها برجل من بني أسد، وسيره إلى نينوى وتشرفه بالحائر الشريف، وأن على الباب منه جماعة كثيرة، فأراد الدخول فقال له الآذن: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت; لأنه كان وقت زيارة ابراهيم خليل الله ومحمد رسول الله، ومعهما جبرائيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير، وأنه انتبه وجرى له في اليقظة مثل ما رأى في النوم، إلا أن الخنازير كانت في اليقظة عشرة من اللصوص، وفي دخوله الحائر لم يكن هناك آذنفقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك، وتالله إن بلغني بعد هذا الوقت أنك تحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهدا علي فقال له أبو بكر: إذن يمنعني الله وإياه منك; فإني إنما أردت الله بما كلمتك به فقال له: أتراجعني يا ماص؟! وشتمه، فقال له: اسكت أخزاك الله وقطع لسانك فأزعل موسى على سريره ثم قال: خذوه فأخذوا الشيخ عن السرير وأخذت أنا، فو الله لقد مر بنا من السحب والجر والضرب ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبدا وكان أشد ما مر بي من ذلك أن رأسي كان يجر على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: اقتلوهما ابني كذا وكذا ـ بالزاني لا يكني ـ وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك اللهم إياك أردنا ولولد نبيك غضبنا، وعليك توكلنا فصير بنا جميعا إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلا قليلا، فالتفت إلي أبو بكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي فقال: يا حماني، قد قضينا لله حقا واكتسبنا في يومنا هذا أجرا، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله"
خرج الآصفى عن سياق القصة كما فعل سابقا وحكى حكايةعن مواجهة الحاكم وليس عن مواجهة القوم جميعا وهى مواجهة أعظم صعوبة
ثم قال:
طالاعتزال
يقول تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فاووا إلى الكهف) سيظهر لنا من هذا الجزء من الآية، أنه كان لهؤلاء الفتية بعد الايمان بالله اعتزال وأوي إلى الكهف والثاني غير الأول بظاهر الآية وإذا أردنا أن ننظم مراحل عمل هؤلاء الفتية نستطيع أن نقول: إنهم آمنوا أولا، ثم قاموا فقالوا: (ربنا رب السماوات والأرض) ثانيا، ثم اعتزلوا قومهم وما يعبدون إلا الله ثالثا، ثم أووا إلى الكهف رابعا
إذن الاعتزال غير الأوي إلى الكهف; فقد اعتزلوا قومهم وما يعبدون إلا الله قبل أن يأووا إلى الكهف وأقرب معاني الاعتزال في هذه الصورة أنهم قاطعوا مجتمع القصر، ولم يخالطوهم كما كانوا يخالطونهم من قبل، ولم يعاشروهم كما كانوا يعاشرونهم من قبل، وهذه الحالة هي حالة الانفصال والمقاطعة النفسية والبراءة وفي هذه الحالة ينتزع الإنسان نفسه من الوسط الذي يعيش فيه انتزاعا كاملا، رغم أنه يعيش في نفس الوسط، ويدخل معهم في الاسواق ويعاملهم ويتعاطى البيع والشراء والدراسة والعمل في الاسواق والدوائر والمدارس معهم، لكنه لا يتأثر ولا يخضع لمؤثرات الوسط الثقافية والحضارية والسياسية مطلقا، وكأن بينه وبين هذه المؤثرات في ذلك الوسط عازلا قويا، يقطع كل تأثير من الوسط الذي يعيش فيه علما بأن للوسط الحضاري والثقافي والاعلامي الذي يعيش فيه الإنسان تأثيرا قاهرا على عقله وقلبه والمؤمن الذي يعيش في وسط غير وسطه، وفي غربة حضارية وثقافية واجتماعية، يستهلكه لا محالة الوسط الذي يعيش فيه، وتقهره العوامل الثقافية والحضارية والإعلامية على الاندماج العقلي والعاطفي في هذا الوسط ; كما لو صببنا كأسا من الماء العذب الحلو في بحيرة مالحة، فإن البحيرة تستهلكه لا محالة وهذا الحكم يجري في المجتمع كما يجري في التفاعلات الفيزيائية، من غير فرق إلا أن يعزل المؤمن نفسه بعازل نفسي قوي عن المؤثرات والعوامل القاهرة في ذلك الوسط، فعندئذ يعيش في ذلك الوسط في حصانة كاملة، رغم أنه يمكن أن يتعاطى في ذلك الوسط كل ما يتعاطاه الناس من شؤون عمله ومعيشته وهذا هو حال الإنسان المؤمن عندما يعيش في حالة غربة حضارية وثقافية في مجتمع غير مجتمعه، كما حدث ذلك للمسلمين في بدء ظهور الإسلام في مكة"
نجح الآصفى هنا فى التعبير هن حكاية الاعتزال وهى اعتزال طاعة قوانين المجتمع لطاعة أحكام الله وليس اعتزال الناس فى المعيشة وكعادته ذهب بنا بعيدا عن سياق القصةبحديثه عن الغزو الثقافى الحالى ومايقوم به المعتزلون حاليا فقال:
" وكما حدث ذلك في عصرنا في فترة الغزو الثقافي، والغارة الحضارية التي تعرضت لها بلادنا في العالم الإسلامي، ثم بدأت بالانحسار والحمد لله وهو على ما اعتقد تفسير لقوله (ص) ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء))
ومن الطبيعي أن الإنسان إذا كان غريبا في بيئة، يأخذ بالأنس والاندماج النفسي بتلك البيئة ثقافيا وحضاريا بالتدريج، ولكن هذا الاندماج العقلي والعاطفي مع الأوساط الجاهلية يؤدي إلى استهلاك الحالة الإيمانية بالتدريج، فلابد أن يفصل نفسه في مثل هذه الحالة بعازل نفسي قوي عن المؤثرات الثقافية والحضارية في ذلك الوسط، في الوقت الذي يمارس فيه نشاطه في السوق والجامعة والدوائر والشارع بشكل طبيعي، كما لو لم يكن بينه وبين ذلك المجتمع عازل من هذا النوع وفي مثل هذه الحالة يتحرر الإنسان بشكل كامل من مؤثرات الوسط الذي يعيش فيه، في الوقت الذي يؤدي فيه دوره العملي في المجتمع بصورة كاملة وشأن هذا العازل شأن العازل في الفيزياء; فالعامل الذي يمارس عمله في مد الأسلاك الكهربائية، يمكن أن يمارس عمله بصورة طبيعية في أخطر الحالات، إذا كان يستخدم العازل الذي يعزله عن التيار الكهربائي وهذه الحالة من المفاصلة النفسية حالة صعبة من دون ريب، وليس أشق على الإنسان من أن يعيش في المجتمع حياة طبيعية، يدخل ويخرج مع الناس في مداخل الحياة ومخارجها، في الوقت الذي ينتزع فيه نفسه من ذلك الوسط انتزاعا كاملا وهذه هي الهجرة الكبرى في حركة الإنسان إلى الله، والهجرة في المساحة الجغرافية من مكان إلى مكان هي الهجرة الصغرى ورغم كل المتاعب والمشاكل التي تستتبعها الهجرة الصغرى، فإنها دون الهجرة الكبرى بمراحل وقياس الهجرة الكبرى إلى الهجرة الصغرى مثل قياس الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر ; فإنه رغم كل متاعب الجهاد الأصغر، وما يتطلبه من التضحية والقتل في سبيل الله وإنفاق الأموال والأنفس، فإن الجهاد الأكبر ـ داخل النفس ـ أصعب وأشق بمراحل كثيرة من الجهاد الأصغر"
ونحن عنوان التقوى عازل استمر الرجل فى بعده عن سياق القصة فقال:
"التقوى عازل:
وبمناسبة الحديث عن العازل النفسي أقول: إن التقوى من اقوى العوازل النفسية التي تحمي الإنسان من (الاهواء) و (الفتن) ولسنا نعرف عازلا اقوى من هذا العازل والتقوى لباس يحفظ الإنسان من الاهواء والفتن، كما أن اللباس يحفظ الإنسان من الحر والبرد ومن اعين الناس، ويستر سوأة الإنسان يقول تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير)، فاذا حفظ الإنسان نفسه بملابس واقية ودافئة، فليس عليه بأس أن يخرج من البيت في يوم شديد البرد، فلا يمسه ولا يضره من البرد شيء، وكذلك الإنسان إذا تسلح بالتقوى، فليس عليه بأس من سلطان الهوى والفتن
\ولو أن الناس خرجوا إلى الشارع من دون ملابس تستر سوآتهم، لأشبهوا الحيوانات، ولكن الله تعالى أكرم الإنسان باللباس الذي يستر سوأة جسمه، فكذلك التقوى لباس يستر سوأة النفس من الاهواء والشهوات والغرائز، فيلطفها ويعدلها ويرققها بالشكل الذي يناسب كرامة الإنسان والتقوى حصن يحصن الإنسان من الاهواء والفتن والشياطين، كما أن الحصون تحمي الناس من سطو الاعداء وبطشهم يقول امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: ((إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل)) فالتقوى حصن منيع يمنع الاعداء من البطش والسطو، والفجور حصن ذليل، لا يمنع احدا ولا يحفظ من عدو
وكما أن الإنسان لو تحصن بحصن منيع لما خاف عدوا ولا سارقا، ولا سبعا ضاريا، كذلك من تحصن بحصن التقوى يقول امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: ((عباد الله، إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه))
وإذا اصبح الإنسان في حمى الله بالتقوى من الاهواء والفتن والشياطين، فلا يمسه منها سوء ولا أذى، وليس للهوى والشيطان عليه سلطان
وأهم من ذلك كله أن التقوى تمنح صاحبها قدرة على الانتباه المبكر، فإذا تعرض الإنسان لخطر سطو الشيطان تذكر فورا، وأخذ العدة الكاملة لمواجهة الشيطان والهوى
ارأيت اجهزة الانذار المبكر؟ كذلك التقوى، فلا يتمكن الشيطان أن يغزو الإنسان على حين غرة وغفلة يقول تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)
وإن الشيطان لا يقتحم عليهم قلوبهم، وإنما يمسهم طائف منه فقط
فإذا مسهم من الشيطان طائف تذكروا فورا، وبصورة مبكرة، فإذا هم مبصرون ولن يستطيع الشيطان أن يقتحم على أحد قلبه وصدره وعقله، وهو في مثل هذه الدرجة العالية من التذكر والبصيرة، والقدرة على المواجهة"
انتهى مقال التقوى عازل وهو لا علاقة له بالقصة حيث لم يذكر أهل الكهف أبدا فى المقال ثم قال:
"الأوي إلى الكهف:
يقول تعالى: (فأووا إلى الكهف) ذكرنا أن الأوي إلى الكهف غير الاعتزال، والآية الكريمة صريحة في ذلك
الاعتزال مقاطعة نفسية، والأوي إلى الكهف هجرة، والاعتزال والهجرة يكمل احدهما الآخرغير أن الاعتزال من الهجرة الكبرى، والأوي إلى الكهف من الهجرة الصغرى والهجرة الكبرى تجري داخل مساحة النفس، والهجرة الصغرى في الرقعة الجغرافية من الأرض، ولا تقاس الهجرة الكبرى بالهجرة الصغرى ; فإن الاعتزال والمقاطعة النفسية جهد نفسي شاق، في انتزاع النفس وتحريرها من سلطان الأهواء والمغريات، والهجرة الصغرى جهة لانتزاع الإنسان نفسه من الوسط الاجتماعي الذي يألفه، والعلاقات الاجتماعية والأسرية، والموقع الاجتماعي والاقتصادي، وهذه المجموعة هي مجموعة (الوشائج) التي يرتبط الإنسان عن طريقها بالمجتمع والوسط الاجتماعي بينما في الهجرة الكبرى ينتزع الإنسان نفسه من الأهواء العميقة النفسية، وهي (الولائج) المتحكمة والمؤثرة داخل النفس والفرق بين الهجرتين هو الفرق بين (الوشائج) و (الولائج) ; فإن الهجرة الكبرى هي مقاومة الولائج وانتزاع النفس منها، بينما الهجرة الصغرى هي انتزاع النفس من مجموعه الوشائج ولا شك أنه عملية صعبة، ولكن شتان بين الانتزاعين: أن ينتزع الإنسان نفسه من الولائج المتحكمة في نفسه، وأن ينتزع نفسه من الوشائج التي تربطه بالوسط والمجتمع ولا شك أن الأول أشق من الثاني بكثير
إن الهدف من الهجرة الكبرى تحرير النفس من سلطان الاهواء والهدف من الهجرة الصغرى أن يخرج الإنسان من دائرة سلطان الطاغوت ونفوذه ; فإن الطاغوت لا يطيق الدعوة إلى الله تعالى في دائرة نفوذه وسلطانه، بكل شكل; لأن هذه الدعوة تصادر ـ في النتيجة ـ كل سلطانه ونفوذه، وهو يشعر بعمق هذه الدعوة، ولذلك لا يكاد يسمح لأحد أن ينهض بالدعوة إلى الله في دائرة نفوذه وسلطانه، ويعمل لخنق كل صوت والقضاء على كل من يحمل هذه الرسالة إلى الناس، من دون رحمة، ومن دون تردد ولذلك فمن الخطأ في مثل هذه الحالة ألا يهاجر من دائرة نفوذ الطاغوت، ولا يفر بدينه، ويبقى في متناول بطش الظالم وسطوته; فإنه في هذه الحالة لابد أن يؤول حاله إلى احد أمرين: إما الخضوع لإرادة الطاغية والتخلي عن موقع الدعوة إلى الله، أو أن يمكن الطاغية من رقبته وكل منهما خسارة والصحيح هو أن يهاجر بدينه من قبضة الظالم وهذا هو معنى (الأوي إلى الكهف) في قصة الفتية
الجزاء"
رغم حديث الرجل عن طلب أحدهم أن يذهبوا للكهف ليس هروبا وإنما يأسا من إيمان القوم فقد استمر فى الفقرة التالية فى البعد عن سياق القصة فقال:
"من رقائق الثقافة الاسلامية العلاقة بين الجزاء والعمل ومساحة الجزاء هي الدنيا والآخرة، ومساحة العمل هي الدنيا فقطولابد لكل عمل من جزاء، ولا ينفك العمل عن الجزاء وبتعبير أدق: العمل يستبطن الجزاء، والجزاء من سنخ العمل يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) إن الذي يجاهد في الله، ويسعى إلى تحقيق مرضاة الله، يهديه الله سبل مرضاته، ويعينه الله على تحقيق مرضاته والوصول إليها"
ثم عاد للسياق فقال:
"وفي آيات سورة الكهف نجد أن هؤلاء الفتية لقوا جزاء عملهم عاجلا في الدنيا في ثلاث مراحل: في مرحلة الايمان بالله يقول تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى) ، وفي مرحلة القيام والنهضة واعلان التمرد على الطاغية يقول تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها) ، وفي مرحلة الأوي إلى الكهف يقول تعالى: (فاووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)
فلنتأمل في هذه المراحل الثلاثة من الجزاء
في المرحلة الاولى:
لما آمنوا بالله زادهم الله تعالى هدى على هداهم وهنا الجزاء من جنس العمل; بوضوح أن الايمان هداية، فإذا اهتدى الإنسان بهدي الله زاده الله تعالى هدى على هداه كما أن الإنسان إذا اختار سبيل الضلالة يعاقبه الله، فيزيده ضلالا على ضلاله يقول تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) "
نلاحظ هنا الفهم الخاطىء بزيادة الإيمان فمعنى زيادة الإيمان هى الاستمرار على الإيمان والعمل به فالهدى واحد وهو لا يتغير وهو الوحى ثم قال:
"وفي المرحلة الثانية:
(وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) وليس من شك أن هذا القيام وتلك الدعوة لا يتمان من دون قوة قلب ورباطة جأش فإذا قاموا بهذه الدعوة في وجه الطاغية، آتاهم الله المزيد من رباطة الجأش، وربط على قلوبهم: (وربطنا على قلوبهم) يعني قوينا قلوبهم، ولولا أن الله تعالى يقوي قلب عبده، لما تمكن من مثل هذه الحركة الجريئة والشجاعة، ولا استطاع أن يواجه الطاغية بمثل هذه القوة، بل ما استطاع أن يتخذ القرار بذلك ; فإن الخطوة الاولى في مثل هذه الاعمال الكبيرة هي اتخاذ القرار والنية والعزموسلام الله على الامام الصادق حيث يقول: ((لا يضعف جسد عما قويت عليه النية)) فإذا قوي الإنسان على النية والعزم والقرار، هانت عليه المراحل الاخرى من العمل، وأعانه الله عليها وشد على يدهولكن لابد من أن يقوم وينهض ليشد الله على يده، فإن لم يقم ولم يحاول لا يرزقولولا دعم الله تعالى وتأييده لأولئك الفتية الذين نهضوا في جو القصر بالدعوة إلى الله، لم يتمكن أي منهم أن يقوم فيقول في وجه الطاغية: (لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا)
ولا شك أن العزم والنية أيضا لا تتم إلا بتأييد الله تعالى ودعمه، فإن الله تعالى يسبغ تأييده ودعمه واسناده على عبده مرتين: مرة للنية والعزم والقرار والوقوف، وهذا عام شامل لكل الناس، ومن الناس من ينتفع بهذا الرزق الإلهي الشامل، ومن الناس من يفرط فيه، ويضيعه، ومرة أخرى ينزل دعمه واسناده على الذين يعزمون، وينهضون ويقومون، وهذا رزق خاص، يخص به الله تعالى الذين يقومون وينهضون برسالة التوحيد
وفي المرحلة الثالثة:
يقول تعالى: (فاووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)
والحمد لله الذي ارانا صدق وعده فيما رزقنا من ابتلاء الهجرة; فقد وجدنا ماوعدنا ربنا حقا، ونشر لنا من رحمته، وهيأ لنا من أمرنا مرفقا وصدق الله العلي العظيم وكل الذين ابتلاهم الله تعالى بالهجرة وجدوا صدق وعد الله، بما فتح الله تعالى لهم من أبواب رحمته وآفاق العمل والحركة، وفيما هيأ لهم من المرافق في حركتهم وعملهم والحمد لله رب العالمين"
ونلاحظ هنا أن الرجل لم يذكر القصة كاملة فقد اكتفى بطلب الايواء إلى الكهف وأما بقية القصة من نومهم وكلبهم وما تلا ذلك حتى بعثهم وموتهم مرة أخرى فلم يذكرها مع ان الكتاب هو أن عن أهل الكهف وهو قصور فى الكتاب كان ينبغى تداركه