رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,709
- الإقامة
- مصر
نظرات في كتاب من أحسن الحديث خطبة إبليس في النار
الكتاب من تأليف أبي قتادة الفلسطيني عمر بن محمود أبو عمر وهو يدور حول كلام الشيطان الذى قصه الله علينا في القرآن للتبرؤ من اضلال البشر وقد استهل الكتاب بالآيات فقال :
"{وقال الشيطان لمّا قُضيَ الأمرُ إنّ الله وعدَكُم وعدَ الحقِّ ووعدّتُكم فأخلفتُكم وما كان ليَ عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتُكم فاستجبْتُم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم * ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمُصرِخِيِّ إنّي كفرتُ بما أشركتموني من قبلُ إنّ الظالمين لهم عذابٌ أليم}."
وفى البداية ذكرنا الرجل بحقيقة أن الصراع في الدنيا هو صراع بيننا وبين الشيطان فقال :
" تذكرة:
مما يجب تحريره في تصوّر حقيقة الصراع في هذه الدنيا أن يعلم المسلم أنّ عدوّه الحقيقي هو الشيطان، وهو كائنٌ مخلوق، وما من شرّ في هذه الدنيا إلاّ وهو منبثقٌ من زمزمته وهمزه ولمزه، وهو أستاذ أهل الشرّ، وهو إمامهم وقائدهم، يحادثهم ويحادثونه - يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ القولِ غروراً - ويبثّ فيهم من تعاليمه وأفكاره ما يجعلهم عباداً لدينه وشريعته."
وأبو قتادة يجعل الشيطان هنا هو إبليس وفى الحقيقة الشيطان هو شيطان النفس لأن من المحال أن يتواجد إبليس في مليارات البشر في نفس الوقت فيوسوس لهم
ومن ثم فالحديث يجب أن يكون عن شيطان النفس الذى قال تعالى فيه :
" ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه"
ولو كان المراد إبليس فهو من الجن والجن يوسوس لكل واحد منهم شيطانه في الصدر وهو النفس كما يوسوس للإنس كما قال تعالى :
" من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس"
وتحدث عن بعض الكتب التى تناولت هذا الصراع المستمر في الدنيا فقال :
"وقد كتب بعض مشايخنا في تعريف الأمة لحقيقة هذه الصراع وطبيعته وأهدافه وأسلحته كتاباً ماتعاً رائعاً لا ينبغي لطالب العلم أن يفوّت قراءته، هذا الكتاب هو: "عندما ترعى الذئاب الغنم" للشيخ رفاعي سرور، وحتى لا أكرّر ما يقوله فضيلة الشيخ فإنّي أنصح إخواني بقراءته ودراسته، وهو من الكتب القليلة التي تخرجها مطابع اليوم وتستحقّ النظر والاحترام. وكتب الشيخ كلّها نافعة جليلة، منها؛ "قدر الدعوة وحكمة الدعوة"، و "أصحاب الأخدود"، فجزى الله الشيخ خير الجزاء."
وتحدث أبو قتادة عن أن الخطبة المروية رواها ابن كثير في تفسيره فقال :
"هذا العنوان - خطبة إبليس في النار - قاله الإمام العلاّمة أبو الفداء ابن كثير في تفسيره، وفي هذا العنوان - في ظنّي - ما يحتاج إلى بعض المراجعة لتصويب ما يقع في خلد القارئ من تمثّل للطريقة التي يلقي فيها الشيطان خطبته، وهذا التمثّل له أهمّية في تحقيق المعنى النفسي لقارئ هذه الآية العظيمة، فإنّ تصوّر المسلم لخطيب فوق منبر، شامخ بأنفه، دافع لصدره، معتزٌ بنفسه، تلقي ظلالاً من الهيبة على معاني الكلمات التي يخرجها، وتكسب الألفاظ قوّة زائدة، كما هو شأن حركة اليد للخطيب أو المدرّس أو الواعظ، وهذا الموقف الذي سيخطب فيه الشيطان خطبته ليس فيه أيّ قدر من هذه المعاني، بل هو على الضدّ منها من كلّ وجه."
وتحدث عن هذه الخطبة مختلفة عن باقى الخطب التى يلقيها الناس في صفات الخطيب فقال :
"فإذا كان شأن الخطيب أن يخطب على مستمعيه من علٌ، فوق درجة أو درجات، فإنّ الشيطان هاهنا يخطب من سفل تحت دركات؛ وإذا كان الخطيب فوق منبره يقرّر ويعظ ويعلّم، فإبليس هنا يتنصّل ويبكت ويَخزَى ويُخزِي؛ وإذا كان الخطيب يرفع رأسه ليراه الناس وليكسيَ ألفاظه معنى الهيبة والقوة، فإنّ إبليس هنا ينكمش ويتصاغر لأن جموع الطالبين بالحقوق منه هادرة غاضبة صادخة وتطلب التفسير والجواب.
فإبليس في خطبته هذه قابع في الدرك الأسفل، بل في أسفل دركة، خائب حسير، تلفحه النار والعذاب من كل مكان، وملائكة العذاب تضربه من كلّ جانب، وصراخُ وعويلُ أتباعه تزيده آلاماً فوق ما هو عليه، ورؤيته للفقراء والمساكين الذين كان يستهزئ بهم ويتعالى عليهم وهم ملوك في الجنان تأكل قلبه وتشعل ندمه، هكذا يجب أن نقرأ هذه الخطبة، وإلا وقعنا في الكثير من الأخطاء في فهمنا لما يقوله الله تعالى."
وروى رواية تتعارض مع القرآن فقال :
"وهذا الذي أقوله مع علمي بما رُويَ عن الحسن البصريّ أنّه قال: (يقف إبليس خطيباً في جهنّم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً، فيقول: إنّ الله وعدكم وعد الحقّ. ولا أدري إلا أن الذي يُطالب من قبل أتباعه أن يُصرخهم - ينقذهم - وينفذ وعوده فينكص ويعترف بكذب وعوده، ويقرّ بعجزه عن عدم نصرتهم، إلا أنّه في الحالة التي وصفت).
وعلى كلّ حال؛ فلو صحّ ما قاله إمامنا الحسن فليس فيه إلا أنّه على منبر من نار، ومن يقوم على هذا المنبر باختياره؟ فوجه ما قاله الإمام - والله أعلم - أنّه أُقيم رغم أنفه على منبر محاكمة وعذاب ولم يقم باختياره، فلا يبعد أبداً عن المعنى الذي قلناه، والله الموفّق."
قطعا لا وجود للمنابر في النار لأن كل منهم مربوط في سلسلة طولها سبعون ذراعا لا يتحرك أكثر منهم ولا يمكن له أن يسمع الناس كما لا يمكن أن يحدث هذا الموقف في النار وإنما يحدث وقت الحشر خارج الجنة والنار
وتحدث عن آيات أخرى عن الأتباع والمتبوعين فقال :
"وهذه الآية عن خطبة الشيطان قيلت في كتاب الله تعالى بعدما أخبرنا الله تعالى عن تبرّي الأسياد من الأتباع؛ {وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تَبَعاً فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء. قالوا لو هدانا الله لهديناكم، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص * وقال الشيطان ... }.
والمناسبة بين الآيتين واضحة جليّة، فإنّ سياق الآيتين حديث عن قضيّة مهمة وهي قضية الخول والأتباع، وأنّه لا حجة لهم عند الله تعالى بكونهم كانوا مستضعفين في قوّتهم وعقولهم، رضوا لأنفسهم بالتسليم، وتعليق ما هم عليه من الكفر والضلال على مشجب أسيادهم، رافعين عن أنفسهم التهمة، واجدين لها العذر والحجّة، وهي حجّة تتكرّر على مرّ الأزمان والدهور، يقولها الناس بصيغ متعدّدة وبألفاظ متباينة لكنّها تدور على معنىً واحد وهو: {كنّا مستضعفين في الأرض}، والله تعالى قد قطع هذه الحجّة في الدنيا وقطعها في الآخرة، أمّا في الدنيا فإنّ الله تعالى قد أهلك أتباع الفراعنة والطواغيت مع أسيادهم، ولم يستثنهم من العذاب والهلاك، قال تعالى عن فرعون {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ}، ودمّر صنيع الآمر والمأمور قال تعالى: {ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وجنوده وما كانوا يعرشون} وأمّا في الآخرة فكما هو قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية التي بين أيدينا ... وكما في غيرها من الآيات الكثيرة."
والآيات لا علاقة لها بإبليس وإنما باضلال الناس لبعضهم البعض وحدثنا أبو قتادة عما أسماه مراتب المكلفين ناقلا عن ابن القيم فقال :
"وقد ذكر الإمام ابن القيّم في كتابه "طريق الهجرتين" مراتبَ المكلّفين، وذكر مرتبة من هذه المراتب هي مرتبة بهائم البشر من المقلّدين للكفّار والطواغيت، يُرجع إليها لأهمّيتها والآيات في هذا الباب فيها التحذير من التقليد، ومن عدم استعمال المرء لما وهبه الله تعالى من نعمة العقل والنظر، وفيها الدعوة إلى عدم قَبول الاستضعاف، وإن الاستضعاف والذلّة هي طريق الكفر والضلال، فتبكيت التقليد، أي تقليد أتباع الكفر لأسيادهم فيها الدعوة لتحرّر العقل من أغلاله وتحرّر الإرادة من معوّقاتها، وهذا هو الإنسان لا غير علم وإرادة، وما جاء الإسلام إلاّ لتحريرهما من الأغلال والقيود والموانع، وإنّ تقدّم أي أمّة من الأمم لا يكون إلا بتصويب العلم وتحرير الإرادة، وصدق الشافعيّ رحمه الله تعالى حين مدح نفسه بأنّه يرى المذلّة كفراً كما هو في ديوانه، وما تَراجُعُ أمّتنا وتخلُّفُها وارتكاستُها في مراتب الذلّ والهوان إلا بسبب الجهل والذي منه التقليد، وبسبب تحطّم إرادتها بقيود الشهوات والأفكار الباطلة كالجبرية والصوفيّة، ولذلك من مهمّات الدعاة إلى الله تعالى ومن مهمّات الجماعات العاملة لإعادة دين الله تعالى إلى الأرض - إن أحسنوا الطريق - أن ينشروا العلم وينبذوا التقليد، وأن يفتحوا المجال للحركة المبدعة التي تنطلق لتحقيق غايات الإسلام العظيمة."
وكلام ابن القيم عن مرتبة بهائم البشر لا يمت بصلة للوحى فلا توجد تلك المرتبة وإنما هى ألتباع والمتبوعين أى الضعفاء والمستكبرين
وبين أن وقت الخطبة هو الوقت الذى ينتهى فيه الأمر وهو وقت معرفة كل إنسان مصيره للنار أو الجنة وهى ما قبل دخولهما فقال :
"| {وقال الشيطان لمّا قُضِي الأمر} ...
لا بدّ من حركة يتصوّرها المرء لتسبق قول الشيطان، إنّها حركة الأتباع والعبّاد له، ذلك أنّهم تشاوروا فيما بينهم واتّفقوا على محاسبته ومطالبته بتنفيذ وعوده، فتدافعوا كالموج يطالبون الشيطان أن يبرر لهم هذا المستقرّ الذي آلوا إليه، وصرخوا بملء أفواههم: أيّها الشيطان ... إبليس ... أين ما وعدّتنا .. ؟ أين ما زيّنت لنا .. ؟ أين ما أقسمت لنا من صدق القول وصواب الحديث؛ إنّهم يصطرخون فيها ... ليس صراخاً .. إنّه اصطراخ .. وزيادة المبني تدلّ على زيادة في المعنى. فإمّا أنّهم جرجروه حتّى أقاموه فوق منبر من نار .. وإمّا أنّه تصاغر وأطلق كلماته هذه محاولاً قدر استطاعته أن يُخفي خزيه وعاره، ولم يبقَ له من عذرٍ فقد قُضي الأمر، وآب الناس إلى منازلهم: هو وحزبه إلى النار وحزب الله إلى الجنّة."
وشرح قول الشيطان والذى لم يسمه الله إبليس فقال :
"{إنّ الله وعدكم الحقّ ووعدّتكم فأخلفتُكم} ...
ومثل هذه الآية في المعنى قوله سبحانه: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن شيئاً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه}.
فالله قد وعد، ووعده حقّ، وهو القادر سبحانه وتعالى أن ينفّذ وعده، لا يعجزه شيء إذا أراده، ثمّ تفكّر بهذه الصيغ الرحيمة التي ينادي الله تعالى بها عباده في هذه الدنيا، إنّها كلمات الرحمة."
وحدثنا عن رحمة الله عباده بفتح باب التوبة في الدنيا فقال :
أ"ُنظر وتفكّر في قوله سبحانه {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله * إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، إنّه هو الغفور الرحيم} فتفكّر فيها المرّة تلو المرّة، ثمّ تفكّر أنّ الذي يناديكم بهذه الكلمات هو خالقك وربّك، وهو الغنيّ عن العالمين، لا يزيدون ملكه شيئاً إذا عبدوه، ولا ينقصون ملكه شيئاً لو كفروه، سبحانه ما أرحمه، وما أرأفه، فله الحمد على جميل صفاته .. جلَّ في علاه.
إنّ من وعد الحقّ أن ينصر الله عباده فنصرهم، وإنّ من وعد الحقّ أن يملأ قلوبهم بالرضا والاطمئنان فأرضاهم، وكشف عنهم غمّهم، وإنّ من وعده أن يخفّف عنهم سكرات الموت فكان لهم ذلك، وأن يجعل عليهم قبورهم جنّة من الجنان فيها روح وريحان فذاقوا من ذلك ألواناً، وإنّ من وعد الحقّ أن يؤمّنَهم يوم الفزع الأكبر فأمَّنهم، وإنّ من وعد الحقّ أن يجعل لهم نوراً في قبورهم ويوم بعثِهم وفوق الصراط فكان لهم النور، وإنّ من وعد الحقّ أن يدخلهم الجنان فدخلوها، وإنّ من وعد الحقّ وهو أعلى الوعود وأشرفها أن يروا ربّهم فتجلّى لهم من فوقهم ورأوه كما يرون البدر في الليلة الصافية .. {وقالوا الحمد لله الذي صدَقَنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّء من الجنّة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}."
وتحدث عن اقرار الشيطان بأنه أخلف الناس وعده فقال :
"فماذا فعل الشيطان بوعوده؟ {فأخلفتكم} هكذا ظهر سراب وعوده، تكشّف كذبها، وبانت على حقيقتها، لقد تلاشت كلّها تحت كلمة الشيطان {فأخلفتكم} .. لقد بحثوا عنه في كلّ موطن أقسم لهم أن يكون لهم فيه، ونادوا عليه بكل أصواتهم حتّى كلّت وبحّت، لكنه لم يكن هناك، لقد تخلّف لقد أقسم لأبينا آدم {وقاسمهما إنّي لكما من الناصحين} وكذب في قسمه.
لقد أوعدهم الفقر إن أنفقوا فكان ما نصحهم به هو الفقر بعينه.
لقد وعد أولياءه في بدر، وقال: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم}، فما هي إلا لحظات حتّى صدق الله وعده للمؤمنين وأنزل ملائكته تؤيّدهم وتثبّتهم وتقاتل معهم فما كان من الشيطان إلا أن نكص على عقبيه وقال: {إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون، إنّي أخاف الله والله شديد العقاب}.
{فأخلفتكم} .. كلمة لم تبقِ لهم في نفوسهم أملاً، وقطّعت كلّ أمانيهم، ولم يبقِ لهم من رجاء، وإذا كان للشيطان أن يصدق قليلاً فإنّ صدقه هنا لم يكن سوى تصوير لحقيقة الأمر التي لا دافع لها. ولله الأمر من قبل ومن بعد ثمّ بكلمات يسيرة خاطفة، ككلّ خطبة، قذف البراءة والتبرّي في وجوههم: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ..
والسلطان ههنا اختلف العلماء في تفسيره؛ فأكثرهم على أنّه الحجّة والدليل، أي لم يكن لي من دليل ولا حجّة على ما دعوتكم له من الشرك والكفر والمعصية، بل بمجرّد أن رفعت لكم لواء الشهوات حتّى أقبلتم إليها دون تفكّر بالعواقب، ودون نظر صحيح، وقال بعض أهل العلم إنّما السلطان هو القوّة والقهر، أي لم أقهركم على الكفر والشرك إنّما أقبلتم إلى ذلك بمحض إرادتكم، ولا يبعد أنّ المراد بالسلطان هو هذا وهذا، بل كلمة السلطان أشمل من ذلك"
وتحدث عن أن الشيطان أراد تبرئة نفسه من كونه السبب في دخولهم النار فقال :
"فإنّ الشيطان يريد أن يبرّئ نفسه، وأن يحمّل الأتباع نتيجة ما أتوا وعملوا، ولكنّه استدرك وبيّن ما كان منه من عمل: {إلا أن دعوتكم}، وهكذا أخفى كلّ ما يقوم به من تزيين للباطل ونصرة للشر والنفخ والهمز في قلوب الناس بكلمة واحدة: {دعوتكم}.
وأقول: أخفى لأنّ في كلمته هذه تزييف للحقيقة، فإنّها كلمة سريعة فلو كان أمام قضاء غير ما هو فيه لما استحقّ عليها عقاباً، لكنّها يوم القيامة تحمل حقيقة المعنى وذلك لتحقّق الجزاء، وهي كلمة تَبرّي؛ نعم، لكنها كلمة تبكيت وتحقير لأتباعه وعباده، وهي بلا شكّ ستملأ قلوبهم حسرة وندامة.
الشيطان دعاهم، وزيّن لهم، ووسوس لهم، ووعدهم، وأوحى لهم، ورماهم بسهامه، وقذف في طريق الحقّ ألف معوّق ومعوّق، وصاحب قلوبهم في السر والعلن، وكان ممّا قال لربّه يوم لعنه: {أرأيتك هذا الذي كرَّمتَ عليّ لئن أخّرتنِ إلى يوم القيامة لاحتنكنّ ذرّيته إلا قليلاً}، فقال الله تعالى له: {اذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً *واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً * إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربّك وكيلاً}.
فقارن بين هذه الأفعال: دفع الناس بالصوت والنداء إلى الكفر والشرك والمعصية، والجلب عليهم بالخيل والرجال والمشاركة في الأموال والأولاد، والوعود الكاذبة، ثمّ انظر إلى قوله {لأحتنكنّ ذرّيته} أي لأشدّنهم إلى الشرّ من الحنك وأسوقنّهم إليه بكلّ قوّة، وبين قوله: {دعوتكم} ترى كيف ما زال الشيطان كاذباً ومراوغاً في كلّ موطن، نعم: صدق، دعاهم فقط، كلّ ما فعله اختزله في كلمة واحدة، أمّا تحقيقها على أرض الواقع فهي تحتاج إلى شروح وشروح."
وبين الرجل أن الشيطان بين أن عمله لم يزد عن أنه دعوة للباطل فقال :
"{دعوتكم فاستجبتم} ...وهكذا يتمّ التقريع والتبكيت، لقد استجبتم لنداء الشيطان بمجرّد أن دعاكم، لكن هل سكتوا؟ اسمع ماذا قال الله عن جواب الأتباع للأسياد بعد قول الأسياد: {قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم، بل كنتم مجرمين}، فردّ الأتباع: {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً}.
نعم ... إنّه مكر الليل والنهار، والتخطيط الدؤوب بترتيب الخطوات - خطوات الشيطان - ليتمّ الانزلاق، {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}: إذاً كان ممّا صرخوا في وجهه أنّهم لاموه على ما زيّن لهم، ولكنّه يردّ لومهم.
لكن السؤال الذي يوجّه له: لماذا لا يلوموه؟ أليس هو الذي دعاهم، وقد اعترف بذلك؟! أم أنّه يعتبر أنّ هذه ليست بالجريمة التي تستحقّ العقاب ولا حتّى اللوم، نعم ... ليس لهم عذر عند الله بأنّهم اتّبعوا الشيطان وصدّقوا وعوده، بل سيعاقبون على كلّ ما فعلوا واقترفوا وبيّتوا، لكن أصحيح أنّه لا لوم على الشيطان؟ إنّها نصف الحقيقة، وكما أنّها الكلمة البريئة: دعوتكم فاستجبتم، وهي اعتراف بالحق مع المجاهدة القصوى لإمرارها سريعاً دون تفصيل يؤدّي إلى إثبات الجرم،"
وتحدث الشيطان عن كون كل إنسان مسئول عن عمله ومن ثم لا يجب مطالبته بشىء فقال :
"فكذلك هنا: {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} إنّها نصف الحقيقة تتكرّر، لكن كما قال الله عن الأسياد والأتباع: {لكلٍّ ضعفٌ} أي من العذاب، وذلك بعد قولهم: {ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتِهم عذاباً ضعفاً من النار قال: لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون}."
وتحدث عن كونه لا يقدر على انقاذهم من النار كما لا يقدرون هم على انقاذه من النار لأن القوة لله جميعا فقال :
"{ما أن بمصرخكم وما أنتم بمصرِخِيّ} وهكذا تدرّج في حديثه حتّى وصل إلى هذه الحقيقة، لن أستطيع إنقاذكم ولا نجدتكم، كما أنّكم لا تستطيعون إنقاذي ولا نجدتي، والعرب تقول للنجدة والمغيث والمعين: الصارخ، والصراخ هو الصياح، لأن طلب الغوث وكذا المغيث لا يخلو منه غالباً قال أميّة بن أبي الصلت:
ولا تجزعوا إنّي لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناءٌ ولا نصر
أي؛ لست لكم بمغيث.وهكذا لم يجدوا عنده إلا السراب الخادع، والأماني الكاذبة، والوعود الباطلة، وقوله سبحانه وتعالى على لسان الشيطان {ما أنا بمصرخكم} دليل على أنّ حديث أهل النار هو الصراخ - وهم يصطرخون فيها - ولا شكّ أنّ حالهم يدعوا لذلك، نعوذ بالله من عذابه وناره والمرء لا يقدّم إلا ما يقدر عليه، وههنا لا يقدر الشيطان على إنقاذ نفسه، فكيف يقدر على إنقاذ غيره؟! ثمّ متى استطاع الشيطان أن يقدّم لعباده وأتباعه شيئاً؟! ومتى صدق في وعد قطعه على نفسه لهم؟ ألا ما أشقى من يتّبع الشيطان ويثق به ويصدّق وعوده."
ثم أعلن كفره بطاعتهم له فقال :
" {إنّي كفرت بما أشركتموني من قبل} ...
وها هو يردّ عبادتهم له في وجوههم، ويرميها خلقة بالية، فقد كفر بعبادتهم، وتبرّأ من إشراكهم إياه مع الله تعالى، فقد كفر بشركهم، وهو اعتراف منه أنّ تألّهه على أتباعه هو تألّه باطل، وأنّ عبادتهم إيّاه عبادة باطلة، وأنّ كل طاعة قدّموها له رجاءَ خيرٍ منه أو جزاء ذهبت سراباً ولم تك شيئاً وهكذا تبيَّن للأتباع من عباده الذين نراهم يملؤون السهل والواد، ويأخذون عنه شريعتهم، ويدمّرون فطرتهم بالانقياد له، ويعرضون عن أمر ربّهم وشريعته، وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه، تبيّن لهم؛ أنّ وعوده كاذبة، وأنّ نهاية العلاقة بينهما هي التبريّ والقطيعة، وأنّه لن ينصرهم في أيّ مقام من مقاماتهم التي يحتاجون فيها إلى النصرة والتأييد."
وبين أبو قتادة أن الله هو من صدق وعده للمؤمنين حيث أطاعوه مستجيبين لأحكامه فقال :
"والله قوله الحقّ، ووعده الحقّ، وما أخبرنا بهذا إلا رحمة بنا، وإخباراً لما سيقع يقيناً من أجل الاتّعاظ قبل فوات الوقت، فيومها: إنّ الظالمين لهم عذاب أليم، فليعجّل الناس بوصل حبالهم مع الله تعالى، وليقطعوا حبالهم مع الشيطان وجنده، وليسمعوا قوله سبحانه {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين * وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيم}.
أمّا المؤمنون فقد قال الله تعالى عقب ذلك: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربّهم تحيّتهم فيها سلام}.
وهي كلمات فيها كلّ الجواب على من سأل: فماذا فعل الله بعبيده، وبأتباع الأنبياء، نعم هذه خطبة إبليس في عبيده وأتباعه، وأما قول الله لعبيده وأحبابه في الجنان يقول لهم: اليوم أُحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، ثمّ يتجلّى لهم فيرونه وهم جلوس على منابر النور واللؤلؤ والذهب وكثبان المسك"
الكتاب من تأليف أبي قتادة الفلسطيني عمر بن محمود أبو عمر وهو يدور حول كلام الشيطان الذى قصه الله علينا في القرآن للتبرؤ من اضلال البشر وقد استهل الكتاب بالآيات فقال :
"{وقال الشيطان لمّا قُضيَ الأمرُ إنّ الله وعدَكُم وعدَ الحقِّ ووعدّتُكم فأخلفتُكم وما كان ليَ عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتُكم فاستجبْتُم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم * ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمُصرِخِيِّ إنّي كفرتُ بما أشركتموني من قبلُ إنّ الظالمين لهم عذابٌ أليم}."
وفى البداية ذكرنا الرجل بحقيقة أن الصراع في الدنيا هو صراع بيننا وبين الشيطان فقال :
" تذكرة:
مما يجب تحريره في تصوّر حقيقة الصراع في هذه الدنيا أن يعلم المسلم أنّ عدوّه الحقيقي هو الشيطان، وهو كائنٌ مخلوق، وما من شرّ في هذه الدنيا إلاّ وهو منبثقٌ من زمزمته وهمزه ولمزه، وهو أستاذ أهل الشرّ، وهو إمامهم وقائدهم، يحادثهم ويحادثونه - يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ القولِ غروراً - ويبثّ فيهم من تعاليمه وأفكاره ما يجعلهم عباداً لدينه وشريعته."
وأبو قتادة يجعل الشيطان هنا هو إبليس وفى الحقيقة الشيطان هو شيطان النفس لأن من المحال أن يتواجد إبليس في مليارات البشر في نفس الوقت فيوسوس لهم
ومن ثم فالحديث يجب أن يكون عن شيطان النفس الذى قال تعالى فيه :
" ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه"
ولو كان المراد إبليس فهو من الجن والجن يوسوس لكل واحد منهم شيطانه في الصدر وهو النفس كما يوسوس للإنس كما قال تعالى :
" من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس"
وتحدث عن بعض الكتب التى تناولت هذا الصراع المستمر في الدنيا فقال :
"وقد كتب بعض مشايخنا في تعريف الأمة لحقيقة هذه الصراع وطبيعته وأهدافه وأسلحته كتاباً ماتعاً رائعاً لا ينبغي لطالب العلم أن يفوّت قراءته، هذا الكتاب هو: "عندما ترعى الذئاب الغنم" للشيخ رفاعي سرور، وحتى لا أكرّر ما يقوله فضيلة الشيخ فإنّي أنصح إخواني بقراءته ودراسته، وهو من الكتب القليلة التي تخرجها مطابع اليوم وتستحقّ النظر والاحترام. وكتب الشيخ كلّها نافعة جليلة، منها؛ "قدر الدعوة وحكمة الدعوة"، و "أصحاب الأخدود"، فجزى الله الشيخ خير الجزاء."
وتحدث أبو قتادة عن أن الخطبة المروية رواها ابن كثير في تفسيره فقال :
"هذا العنوان - خطبة إبليس في النار - قاله الإمام العلاّمة أبو الفداء ابن كثير في تفسيره، وفي هذا العنوان - في ظنّي - ما يحتاج إلى بعض المراجعة لتصويب ما يقع في خلد القارئ من تمثّل للطريقة التي يلقي فيها الشيطان خطبته، وهذا التمثّل له أهمّية في تحقيق المعنى النفسي لقارئ هذه الآية العظيمة، فإنّ تصوّر المسلم لخطيب فوق منبر، شامخ بأنفه، دافع لصدره، معتزٌ بنفسه، تلقي ظلالاً من الهيبة على معاني الكلمات التي يخرجها، وتكسب الألفاظ قوّة زائدة، كما هو شأن حركة اليد للخطيب أو المدرّس أو الواعظ، وهذا الموقف الذي سيخطب فيه الشيطان خطبته ليس فيه أيّ قدر من هذه المعاني، بل هو على الضدّ منها من كلّ وجه."
وتحدث عن هذه الخطبة مختلفة عن باقى الخطب التى يلقيها الناس في صفات الخطيب فقال :
"فإذا كان شأن الخطيب أن يخطب على مستمعيه من علٌ، فوق درجة أو درجات، فإنّ الشيطان هاهنا يخطب من سفل تحت دركات؛ وإذا كان الخطيب فوق منبره يقرّر ويعظ ويعلّم، فإبليس هنا يتنصّل ويبكت ويَخزَى ويُخزِي؛ وإذا كان الخطيب يرفع رأسه ليراه الناس وليكسيَ ألفاظه معنى الهيبة والقوة، فإنّ إبليس هنا ينكمش ويتصاغر لأن جموع الطالبين بالحقوق منه هادرة غاضبة صادخة وتطلب التفسير والجواب.
فإبليس في خطبته هذه قابع في الدرك الأسفل، بل في أسفل دركة، خائب حسير، تلفحه النار والعذاب من كل مكان، وملائكة العذاب تضربه من كلّ جانب، وصراخُ وعويلُ أتباعه تزيده آلاماً فوق ما هو عليه، ورؤيته للفقراء والمساكين الذين كان يستهزئ بهم ويتعالى عليهم وهم ملوك في الجنان تأكل قلبه وتشعل ندمه، هكذا يجب أن نقرأ هذه الخطبة، وإلا وقعنا في الكثير من الأخطاء في فهمنا لما يقوله الله تعالى."
وروى رواية تتعارض مع القرآن فقال :
"وهذا الذي أقوله مع علمي بما رُويَ عن الحسن البصريّ أنّه قال: (يقف إبليس خطيباً في جهنّم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً، فيقول: إنّ الله وعدكم وعد الحقّ. ولا أدري إلا أن الذي يُطالب من قبل أتباعه أن يُصرخهم - ينقذهم - وينفذ وعوده فينكص ويعترف بكذب وعوده، ويقرّ بعجزه عن عدم نصرتهم، إلا أنّه في الحالة التي وصفت).
وعلى كلّ حال؛ فلو صحّ ما قاله إمامنا الحسن فليس فيه إلا أنّه على منبر من نار، ومن يقوم على هذا المنبر باختياره؟ فوجه ما قاله الإمام - والله أعلم - أنّه أُقيم رغم أنفه على منبر محاكمة وعذاب ولم يقم باختياره، فلا يبعد أبداً عن المعنى الذي قلناه، والله الموفّق."
قطعا لا وجود للمنابر في النار لأن كل منهم مربوط في سلسلة طولها سبعون ذراعا لا يتحرك أكثر منهم ولا يمكن له أن يسمع الناس كما لا يمكن أن يحدث هذا الموقف في النار وإنما يحدث وقت الحشر خارج الجنة والنار
وتحدث عن آيات أخرى عن الأتباع والمتبوعين فقال :
"وهذه الآية عن خطبة الشيطان قيلت في كتاب الله تعالى بعدما أخبرنا الله تعالى عن تبرّي الأسياد من الأتباع؛ {وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تَبَعاً فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء. قالوا لو هدانا الله لهديناكم، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص * وقال الشيطان ... }.
والمناسبة بين الآيتين واضحة جليّة، فإنّ سياق الآيتين حديث عن قضيّة مهمة وهي قضية الخول والأتباع، وأنّه لا حجة لهم عند الله تعالى بكونهم كانوا مستضعفين في قوّتهم وعقولهم، رضوا لأنفسهم بالتسليم، وتعليق ما هم عليه من الكفر والضلال على مشجب أسيادهم، رافعين عن أنفسهم التهمة، واجدين لها العذر والحجّة، وهي حجّة تتكرّر على مرّ الأزمان والدهور، يقولها الناس بصيغ متعدّدة وبألفاظ متباينة لكنّها تدور على معنىً واحد وهو: {كنّا مستضعفين في الأرض}، والله تعالى قد قطع هذه الحجّة في الدنيا وقطعها في الآخرة، أمّا في الدنيا فإنّ الله تعالى قد أهلك أتباع الفراعنة والطواغيت مع أسيادهم، ولم يستثنهم من العذاب والهلاك، قال تعالى عن فرعون {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ}، ودمّر صنيع الآمر والمأمور قال تعالى: {ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وجنوده وما كانوا يعرشون} وأمّا في الآخرة فكما هو قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية التي بين أيدينا ... وكما في غيرها من الآيات الكثيرة."
والآيات لا علاقة لها بإبليس وإنما باضلال الناس لبعضهم البعض وحدثنا أبو قتادة عما أسماه مراتب المكلفين ناقلا عن ابن القيم فقال :
"وقد ذكر الإمام ابن القيّم في كتابه "طريق الهجرتين" مراتبَ المكلّفين، وذكر مرتبة من هذه المراتب هي مرتبة بهائم البشر من المقلّدين للكفّار والطواغيت، يُرجع إليها لأهمّيتها والآيات في هذا الباب فيها التحذير من التقليد، ومن عدم استعمال المرء لما وهبه الله تعالى من نعمة العقل والنظر، وفيها الدعوة إلى عدم قَبول الاستضعاف، وإن الاستضعاف والذلّة هي طريق الكفر والضلال، فتبكيت التقليد، أي تقليد أتباع الكفر لأسيادهم فيها الدعوة لتحرّر العقل من أغلاله وتحرّر الإرادة من معوّقاتها، وهذا هو الإنسان لا غير علم وإرادة، وما جاء الإسلام إلاّ لتحريرهما من الأغلال والقيود والموانع، وإنّ تقدّم أي أمّة من الأمم لا يكون إلا بتصويب العلم وتحرير الإرادة، وصدق الشافعيّ رحمه الله تعالى حين مدح نفسه بأنّه يرى المذلّة كفراً كما هو في ديوانه، وما تَراجُعُ أمّتنا وتخلُّفُها وارتكاستُها في مراتب الذلّ والهوان إلا بسبب الجهل والذي منه التقليد، وبسبب تحطّم إرادتها بقيود الشهوات والأفكار الباطلة كالجبرية والصوفيّة، ولذلك من مهمّات الدعاة إلى الله تعالى ومن مهمّات الجماعات العاملة لإعادة دين الله تعالى إلى الأرض - إن أحسنوا الطريق - أن ينشروا العلم وينبذوا التقليد، وأن يفتحوا المجال للحركة المبدعة التي تنطلق لتحقيق غايات الإسلام العظيمة."
وكلام ابن القيم عن مرتبة بهائم البشر لا يمت بصلة للوحى فلا توجد تلك المرتبة وإنما هى ألتباع والمتبوعين أى الضعفاء والمستكبرين
وبين أن وقت الخطبة هو الوقت الذى ينتهى فيه الأمر وهو وقت معرفة كل إنسان مصيره للنار أو الجنة وهى ما قبل دخولهما فقال :
"| {وقال الشيطان لمّا قُضِي الأمر} ...
لا بدّ من حركة يتصوّرها المرء لتسبق قول الشيطان، إنّها حركة الأتباع والعبّاد له، ذلك أنّهم تشاوروا فيما بينهم واتّفقوا على محاسبته ومطالبته بتنفيذ وعوده، فتدافعوا كالموج يطالبون الشيطان أن يبرر لهم هذا المستقرّ الذي آلوا إليه، وصرخوا بملء أفواههم: أيّها الشيطان ... إبليس ... أين ما وعدّتنا .. ؟ أين ما زيّنت لنا .. ؟ أين ما أقسمت لنا من صدق القول وصواب الحديث؛ إنّهم يصطرخون فيها ... ليس صراخاً .. إنّه اصطراخ .. وزيادة المبني تدلّ على زيادة في المعنى. فإمّا أنّهم جرجروه حتّى أقاموه فوق منبر من نار .. وإمّا أنّه تصاغر وأطلق كلماته هذه محاولاً قدر استطاعته أن يُخفي خزيه وعاره، ولم يبقَ له من عذرٍ فقد قُضي الأمر، وآب الناس إلى منازلهم: هو وحزبه إلى النار وحزب الله إلى الجنّة."
وشرح قول الشيطان والذى لم يسمه الله إبليس فقال :
"{إنّ الله وعدكم الحقّ ووعدّتكم فأخلفتُكم} ...
ومثل هذه الآية في المعنى قوله سبحانه: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن شيئاً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه}.
فالله قد وعد، ووعده حقّ، وهو القادر سبحانه وتعالى أن ينفّذ وعده، لا يعجزه شيء إذا أراده، ثمّ تفكّر بهذه الصيغ الرحيمة التي ينادي الله تعالى بها عباده في هذه الدنيا، إنّها كلمات الرحمة."
وحدثنا عن رحمة الله عباده بفتح باب التوبة في الدنيا فقال :
أ"ُنظر وتفكّر في قوله سبحانه {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله * إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، إنّه هو الغفور الرحيم} فتفكّر فيها المرّة تلو المرّة، ثمّ تفكّر أنّ الذي يناديكم بهذه الكلمات هو خالقك وربّك، وهو الغنيّ عن العالمين، لا يزيدون ملكه شيئاً إذا عبدوه، ولا ينقصون ملكه شيئاً لو كفروه، سبحانه ما أرحمه، وما أرأفه، فله الحمد على جميل صفاته .. جلَّ في علاه.
إنّ من وعد الحقّ أن ينصر الله عباده فنصرهم، وإنّ من وعد الحقّ أن يملأ قلوبهم بالرضا والاطمئنان فأرضاهم، وكشف عنهم غمّهم، وإنّ من وعده أن يخفّف عنهم سكرات الموت فكان لهم ذلك، وأن يجعل عليهم قبورهم جنّة من الجنان فيها روح وريحان فذاقوا من ذلك ألواناً، وإنّ من وعد الحقّ أن يؤمّنَهم يوم الفزع الأكبر فأمَّنهم، وإنّ من وعد الحقّ أن يجعل لهم نوراً في قبورهم ويوم بعثِهم وفوق الصراط فكان لهم النور، وإنّ من وعد الحقّ أن يدخلهم الجنان فدخلوها، وإنّ من وعد الحقّ وهو أعلى الوعود وأشرفها أن يروا ربّهم فتجلّى لهم من فوقهم ورأوه كما يرون البدر في الليلة الصافية .. {وقالوا الحمد لله الذي صدَقَنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّء من الجنّة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}."
وتحدث عن اقرار الشيطان بأنه أخلف الناس وعده فقال :
"فماذا فعل الشيطان بوعوده؟ {فأخلفتكم} هكذا ظهر سراب وعوده، تكشّف كذبها، وبانت على حقيقتها، لقد تلاشت كلّها تحت كلمة الشيطان {فأخلفتكم} .. لقد بحثوا عنه في كلّ موطن أقسم لهم أن يكون لهم فيه، ونادوا عليه بكل أصواتهم حتّى كلّت وبحّت، لكنه لم يكن هناك، لقد تخلّف لقد أقسم لأبينا آدم {وقاسمهما إنّي لكما من الناصحين} وكذب في قسمه.
لقد أوعدهم الفقر إن أنفقوا فكان ما نصحهم به هو الفقر بعينه.
لقد وعد أولياءه في بدر، وقال: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم}، فما هي إلا لحظات حتّى صدق الله وعده للمؤمنين وأنزل ملائكته تؤيّدهم وتثبّتهم وتقاتل معهم فما كان من الشيطان إلا أن نكص على عقبيه وقال: {إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون، إنّي أخاف الله والله شديد العقاب}.
{فأخلفتكم} .. كلمة لم تبقِ لهم في نفوسهم أملاً، وقطّعت كلّ أمانيهم، ولم يبقِ لهم من رجاء، وإذا كان للشيطان أن يصدق قليلاً فإنّ صدقه هنا لم يكن سوى تصوير لحقيقة الأمر التي لا دافع لها. ولله الأمر من قبل ومن بعد ثمّ بكلمات يسيرة خاطفة، ككلّ خطبة، قذف البراءة والتبرّي في وجوههم: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ..
والسلطان ههنا اختلف العلماء في تفسيره؛ فأكثرهم على أنّه الحجّة والدليل، أي لم يكن لي من دليل ولا حجّة على ما دعوتكم له من الشرك والكفر والمعصية، بل بمجرّد أن رفعت لكم لواء الشهوات حتّى أقبلتم إليها دون تفكّر بالعواقب، ودون نظر صحيح، وقال بعض أهل العلم إنّما السلطان هو القوّة والقهر، أي لم أقهركم على الكفر والشرك إنّما أقبلتم إلى ذلك بمحض إرادتكم، ولا يبعد أنّ المراد بالسلطان هو هذا وهذا، بل كلمة السلطان أشمل من ذلك"
وتحدث عن أن الشيطان أراد تبرئة نفسه من كونه السبب في دخولهم النار فقال :
"فإنّ الشيطان يريد أن يبرّئ نفسه، وأن يحمّل الأتباع نتيجة ما أتوا وعملوا، ولكنّه استدرك وبيّن ما كان منه من عمل: {إلا أن دعوتكم}، وهكذا أخفى كلّ ما يقوم به من تزيين للباطل ونصرة للشر والنفخ والهمز في قلوب الناس بكلمة واحدة: {دعوتكم}.
وأقول: أخفى لأنّ في كلمته هذه تزييف للحقيقة، فإنّها كلمة سريعة فلو كان أمام قضاء غير ما هو فيه لما استحقّ عليها عقاباً، لكنّها يوم القيامة تحمل حقيقة المعنى وذلك لتحقّق الجزاء، وهي كلمة تَبرّي؛ نعم، لكنها كلمة تبكيت وتحقير لأتباعه وعباده، وهي بلا شكّ ستملأ قلوبهم حسرة وندامة.
الشيطان دعاهم، وزيّن لهم، ووسوس لهم، ووعدهم، وأوحى لهم، ورماهم بسهامه، وقذف في طريق الحقّ ألف معوّق ومعوّق، وصاحب قلوبهم في السر والعلن، وكان ممّا قال لربّه يوم لعنه: {أرأيتك هذا الذي كرَّمتَ عليّ لئن أخّرتنِ إلى يوم القيامة لاحتنكنّ ذرّيته إلا قليلاً}، فقال الله تعالى له: {اذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً *واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً * إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربّك وكيلاً}.
فقارن بين هذه الأفعال: دفع الناس بالصوت والنداء إلى الكفر والشرك والمعصية، والجلب عليهم بالخيل والرجال والمشاركة في الأموال والأولاد، والوعود الكاذبة، ثمّ انظر إلى قوله {لأحتنكنّ ذرّيته} أي لأشدّنهم إلى الشرّ من الحنك وأسوقنّهم إليه بكلّ قوّة، وبين قوله: {دعوتكم} ترى كيف ما زال الشيطان كاذباً ومراوغاً في كلّ موطن، نعم: صدق، دعاهم فقط، كلّ ما فعله اختزله في كلمة واحدة، أمّا تحقيقها على أرض الواقع فهي تحتاج إلى شروح وشروح."
وبين الرجل أن الشيطان بين أن عمله لم يزد عن أنه دعوة للباطل فقال :
"{دعوتكم فاستجبتم} ...وهكذا يتمّ التقريع والتبكيت، لقد استجبتم لنداء الشيطان بمجرّد أن دعاكم، لكن هل سكتوا؟ اسمع ماذا قال الله عن جواب الأتباع للأسياد بعد قول الأسياد: {قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم، بل كنتم مجرمين}، فردّ الأتباع: {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً}.
نعم ... إنّه مكر الليل والنهار، والتخطيط الدؤوب بترتيب الخطوات - خطوات الشيطان - ليتمّ الانزلاق، {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}: إذاً كان ممّا صرخوا في وجهه أنّهم لاموه على ما زيّن لهم، ولكنّه يردّ لومهم.
لكن السؤال الذي يوجّه له: لماذا لا يلوموه؟ أليس هو الذي دعاهم، وقد اعترف بذلك؟! أم أنّه يعتبر أنّ هذه ليست بالجريمة التي تستحقّ العقاب ولا حتّى اللوم، نعم ... ليس لهم عذر عند الله بأنّهم اتّبعوا الشيطان وصدّقوا وعوده، بل سيعاقبون على كلّ ما فعلوا واقترفوا وبيّتوا، لكن أصحيح أنّه لا لوم على الشيطان؟ إنّها نصف الحقيقة، وكما أنّها الكلمة البريئة: دعوتكم فاستجبتم، وهي اعتراف بالحق مع المجاهدة القصوى لإمرارها سريعاً دون تفصيل يؤدّي إلى إثبات الجرم،"
وتحدث الشيطان عن كون كل إنسان مسئول عن عمله ومن ثم لا يجب مطالبته بشىء فقال :
"فكذلك هنا: {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} إنّها نصف الحقيقة تتكرّر، لكن كما قال الله عن الأسياد والأتباع: {لكلٍّ ضعفٌ} أي من العذاب، وذلك بعد قولهم: {ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتِهم عذاباً ضعفاً من النار قال: لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون}."
وتحدث عن كونه لا يقدر على انقاذهم من النار كما لا يقدرون هم على انقاذه من النار لأن القوة لله جميعا فقال :
"{ما أن بمصرخكم وما أنتم بمصرِخِيّ} وهكذا تدرّج في حديثه حتّى وصل إلى هذه الحقيقة، لن أستطيع إنقاذكم ولا نجدتكم، كما أنّكم لا تستطيعون إنقاذي ولا نجدتي، والعرب تقول للنجدة والمغيث والمعين: الصارخ، والصراخ هو الصياح، لأن طلب الغوث وكذا المغيث لا يخلو منه غالباً قال أميّة بن أبي الصلت:
ولا تجزعوا إنّي لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناءٌ ولا نصر
أي؛ لست لكم بمغيث.وهكذا لم يجدوا عنده إلا السراب الخادع، والأماني الكاذبة، والوعود الباطلة، وقوله سبحانه وتعالى على لسان الشيطان {ما أنا بمصرخكم} دليل على أنّ حديث أهل النار هو الصراخ - وهم يصطرخون فيها - ولا شكّ أنّ حالهم يدعوا لذلك، نعوذ بالله من عذابه وناره والمرء لا يقدّم إلا ما يقدر عليه، وههنا لا يقدر الشيطان على إنقاذ نفسه، فكيف يقدر على إنقاذ غيره؟! ثمّ متى استطاع الشيطان أن يقدّم لعباده وأتباعه شيئاً؟! ومتى صدق في وعد قطعه على نفسه لهم؟ ألا ما أشقى من يتّبع الشيطان ويثق به ويصدّق وعوده."
ثم أعلن كفره بطاعتهم له فقال :
" {إنّي كفرت بما أشركتموني من قبل} ...
وها هو يردّ عبادتهم له في وجوههم، ويرميها خلقة بالية، فقد كفر بعبادتهم، وتبرّأ من إشراكهم إياه مع الله تعالى، فقد كفر بشركهم، وهو اعتراف منه أنّ تألّهه على أتباعه هو تألّه باطل، وأنّ عبادتهم إيّاه عبادة باطلة، وأنّ كل طاعة قدّموها له رجاءَ خيرٍ منه أو جزاء ذهبت سراباً ولم تك شيئاً وهكذا تبيَّن للأتباع من عباده الذين نراهم يملؤون السهل والواد، ويأخذون عنه شريعتهم، ويدمّرون فطرتهم بالانقياد له، ويعرضون عن أمر ربّهم وشريعته، وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه، تبيّن لهم؛ أنّ وعوده كاذبة، وأنّ نهاية العلاقة بينهما هي التبريّ والقطيعة، وأنّه لن ينصرهم في أيّ مقام من مقاماتهم التي يحتاجون فيها إلى النصرة والتأييد."
وبين أبو قتادة أن الله هو من صدق وعده للمؤمنين حيث أطاعوه مستجيبين لأحكامه فقال :
"والله قوله الحقّ، ووعده الحقّ، وما أخبرنا بهذا إلا رحمة بنا، وإخباراً لما سيقع يقيناً من أجل الاتّعاظ قبل فوات الوقت، فيومها: إنّ الظالمين لهم عذاب أليم، فليعجّل الناس بوصل حبالهم مع الله تعالى، وليقطعوا حبالهم مع الشيطان وجنده، وليسمعوا قوله سبحانه {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين * وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيم}.
أمّا المؤمنون فقد قال الله تعالى عقب ذلك: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربّهم تحيّتهم فيها سلام}.
وهي كلمات فيها كلّ الجواب على من سأل: فماذا فعل الله بعبيده، وبأتباع الأنبياء، نعم هذه خطبة إبليس في عبيده وأتباعه، وأما قول الله لعبيده وأحبابه في الجنان يقول لهم: اليوم أُحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، ثمّ يتجلّى لهم فيرونه وهم جلوس على منابر النور واللؤلؤ والذهب وكثبان المسك"