رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,704
- الإقامة
- مصر
نقد كتاب نقض دعاوى من استدل بيسر الشريعة على التيسير في الفتاوى
الكتاب تأليف أحمد بن عبد الكريم نجيب وهو يدور حول موضوع أن المفتين المحدثين يعملون على تيسير الأحكام للناس بشكل مفرط وفى هذا قال:
"ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء ، عمد بعض الميسرين إلى تكلف إيجاد مرجعية شرعية ، و تأصيل منهجية فقهية فجة ، تعمد إلى ما في نصوص الوحيين ، و كلام السابقين ، من أدلة على أن الدين يسر لا مشقة فيه ، و تتذرع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب ، والإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة ، إلى حد يبلغ حافة الإفراط ، ويخشى على من وقع في أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها ، أوالقول على الله بغير علم ، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله و رسوله وقد تأملت أدلة القوم النقلية ، فإذا هي آيات محكمات ، واخبار صحيحة ثابتة ، غير أني لم أجد فيها دليلا على ما ذهبوا إليه ، بل بعضها يدل على خلاف مذهبهم "
الرجل هنا ينعى على أهل الفتوى المحدثين تساهلهم فى إصدار الأحكام فى القضايا بعير دليل لمصلحة الناس دون النظر لتحريم الله هذا من تحليله
وقد بين المؤلف نصوص التيسير فى الوحى فقال:
"المقصد الأول:
نصوص التيسير من الكتاب والسنة:
استدل دعاة التيسير بعموم النصوص الدالة على أن التيسير و رفع المشقة مقصد من مقاصد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ]
و غفلوا عن الآية التي قبلها ، و فيها رفع رخصة الفطر في رمضان مع الكفارة لمن قدر على الصوم ، و هوما ثبت بقوله تعالى في الآية السابقة لها : { و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } [ البقرة : 184 ] روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت { و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ، كان من أراد أن يفطر و يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها قلت : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هومن التشديد وليس من التيسير ، في شيء ، فتأمل !
ومثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هوقوله تعالى : { و جاهدوا في الله حق جهاده هواجتباكم } مع أنه لا مشقة تفوق مشقة الجهاد والتكليف به ، فبقي أن يحمل رفع الحرج على ما رفع بنص الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء الميسرين ومن هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، وابو داود في سننه , واحمد في مسنده ، عن أم المؤمنين عائشة قالت : ( ما خير النبي (ص)بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يأثم ، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه )
وما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، ومسلم في الجهاد والسير عن أنس , عن النبي (ص)، قال : « يسروا ولا تعسروا ، و بشروا ولا تنفروا » و في رواية للبخاري في كتاب الأدب : « يسروا ولا تعسروا ، و سكنوا ولا تنفروا » وروى مسلم وابو داود عن أبى موسى قال : كان رسول الله (ص)إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال : « بشروا ولا تنفروا و يسروا ولا تعسروا »
قلت : جميع ما تقدم من نصوص الوحيين ، وكثير غيره مما يقرر قيام الشريعة الغراء على اليسر ونفي الضرر ، ورفع الحرج ، فهمه الميسرون على غير وجهه ، وحملوه ما لا يحتمل ، متعنتين في توجيهه لنصرة شبهتهم القاضية بجعل التيسير في الفتوى منهاجا رشدا ، و فيما يلي نقض غزلهم ، وكشف شبههم إن شاء الله :
أولا : ثمة فرق لغوي بين اليسر والتيسير ، فاليسر صفة لازمة للشريعة الإسلامية ، ومقصد من مقاصدها التشريعية جاء به الكتاب والسنة ، وانزله النبي (ص)والسلف الصالح منزلته ، أما التيسير فهومن فعل البشر ، ويعني جعل ما ليس بميسر في الأصل يسيرا ، وهذا موطن الخلل
ثانيا : إن اختيار النبي (ص)للأيسر في كل أمرين خير بينهما ، كما في حديث عائشة المتقدم فيه أربع نكات لطيفة :
النكتة الأولى : أن الاختيار واقع منه (ص)فيما خير فيه ، وليس في كل ما أوحي إليه أو كلف به ، هواوامته ، ومثال ذلك الاختلاف في صيغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، وما إليه حيث لا يعيب من أخذ بهذا على من أخذ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما
والثانية : تقييد التخيير بما لم يكن إثما ، ولا شك أن العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( ومن باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلة الشرعية إثم يخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء
والثالثة : أن التخيير المذكور في الحديث يحمل على أمور الدنيا لا الدين ، و هذا ما فهمه أهل العلم قبلنا ، وقد أمرنا بالرد إليهم ، ومنهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قوله بين أمرين : أي من أمور الدنيا لأن أمور الدين لا إثم فيها و وقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح ، واما من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ]
والنكتة الرابعة والأخيرة : أن هذا الخبر ما لم يقيد بما سبق سيكون معارضا باختيار النبي (ص)الأشق على نفسه ، كقيامه الليل حتى تتشقق قدماه مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلا ، و بين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف ، وان كانت السعة أسهل منه ، والإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ]"
الرجل كلامه صحيح هنا فلا يوجد يسر أو تيسير ما دام الأمر محرما فأحكام الله هى أحكام لا تتغير لأنها فى الأصل عادلة ومن ثم لا يوجد اختيار إلا فى الأحكام التى خير فيها الله المسلم بين أمرين أو ثلاثة أو أكثر مثل حكم القتل ففيه القتل والعفو دون دية والعفو مع الدية كما قال تعالى "كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" ومثل حكم الأكل " ونفضل بعضها على بعض فى الأكل" فالمسلم مخير بين مئات أو آلاف الأطعمة
التخيير هنا هو ما يسمونه اليسر أو التيسير ولكنه كما قلنا ترتبط بتلك الأحكام الاختيارية
وقد أخبرنا الكاتب بأنه لا تكليف بدون مشقة فقال:
"لا تكليف بدون مشقة ، وان كانت المشقة الحاصلة بكل تكليف بحسبه وهي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخير أيسر المذاهب دفعا لكل مشقة ، ترتب على ذلك إسقاط كثير من التكاليف الشرعية قال الشاطبي ( المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو اخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا ) [ الموافقات : 2 / 128 ] وقال الإمام شمس الدين ابن القيم ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ]وقال أيضا في معرض كلامه عن رخص السفر : ( إن المشقة قد علق بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض والم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدا أو على جنب ، وذلك نظير قصر العدد ، وان كانت مشقة تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب ، ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومنه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ] قلت : فمن آثر الراحة والدعة في مقام الجد والنصب ، فقد خالف الصواب ، و غفل عما أريد منه ، وما أنيط به ، ولو كان في البعد عن الجد والجهد في الطاعة بدون مرخص شرعي مندوحة لغير ذوي الأعذار ، لما قال تعالى لخير خلقه ، واحبهم إليه : ( فإذا فرغت فانصب ) [ الانشراح : 7 ] "
ما ذكر هنا عن المشقة والتشديد هو ضرب من الخروج على شرع الله فأحكام الله عادلة وشدتها ويسرها وهو ثقلها أى كبرها وخفتها مرتبط بالإنسان نفسه فإن كانت مؤمن بها فهى خفيفة عليه وإن كافر بها فهى ثقيلة عليه كما قال تعالى
"واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"
وقد دعا المؤمنون الله ألا يشرع لهم إصرا أحكام ثقيلة أى إصر كما قال تعالى :
"ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"
ولذا شرع الله كله سهل أى ليس فيها حرج أى أذى كما قال تعالى " وما جعل عليكم فى الدين من حرج"
ثم تحدث عن التنفير من الشدة فقال :
"ما ورد في التحذير والتنفير من التشديد والتعسير والمشاقة والتنطع ، والتعمق - وما إلى ذلك - على النفس والغير ، لا يدل على التخيير ( أو التخير ) في الأحكام الشرعية ، لدلالة النصوص على التكليف بالأشد في مواضع كثيرة ، ولأن النسخ بالأشد مما جاءت به الشريعة بالاتفاق ، فضلا عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطع ونحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع ، كالوصال في الصيام ، فهومما نهي عنه ، وان كان مقدورا عليه بدون مشقة ، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمن وجب عليه حتى وان ثبتت مشقته ، ما دام مقدورا عليه ، وقد تقدم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أن الأصل في التكليف ، أنه قائم على المشقة المقدور عليها
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ، ولا مستحب ، بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ، ولا مكروه ، بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات ، وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى ، شدد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة ، و في هذا تنبيه على كراهة النبي (ص)لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، وان كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك ، متأولين معذورين ، أو غير متأولين ولا معذورين ) [ اقتضاء الصراط : 1/103 ]
وقال ابن القيم ( نهى النبي (ص)عن التشديد في الدين ، وذلك بالزيادة على المشروع ، واخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، واما بالشرع ؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل الوسواس ، فإنهم شددوا على أنفسهم ، فشدد عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك ، و صار صفة لازمة لهم ) [ إغاثة اللهفان : 1/132 ]
ولا يقال : إن أحكام الشريعة تتدرج من الأشد إلى الأيسر ، ولا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنها اشتملت على الأمرين معا ، و هذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول ، والأمثلة عليها كثيرة من الكتاب والسنة ، ومن استقرأها وقف على حقيقة مفادها أن التدرج من الأيسر إلى الأشد هو الغالب في النسخ ، و هوما يصلح دليلا على نقيض ما ذهب إليه دعاة التيسير ، ومؤصلوه في هذا الزمان
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدم ذكره من إيجاب الصيام على كل مكلف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه
و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرج من الأيسر إلى الأشد ، حيث كان مباحا على الأصل ، ثم نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على ربو اثمه على نفعه ، ثم حرم أثناء الصلاة خاصة ، ثم نزل تحريمه في الكتاب ، وحد شاربه في السنة و كذلك الحال في تشديد حد الزنا من الإيذاء باللسان واليد ، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، ثم الجلد للبكر ( والتغريب في بعض المذاهب ) ، والرجم للمحصن ونحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أول الأمر ، ثم الإذن فيه ، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرج في التشريع من الأيسر إلى الأشد كثيرة ، ولو أردنا تتبعها ، وذكر أدلتها وما يتفرع عنها من مسائل وأحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام
و هذا يدل على نقيض ما تذرع به الميسرون ، يسر الله لنا ولهم سبل الهدى ، ووقانا مضلات الهوى وموارد الردى فإذا أضيف إليه ما قررناه آنفا ، من بطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير ، ظهر لنا الحق الصريح ، و هو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح ، و وجوب الرد إلى الله تعالى و رسوله على وجه التسليم والقبول ، والله أعلم واحكم "
كرر الرجل نفس الخطأ وهو أن أحكام الله بها مشقة وتشديد وكما قلنا الشدة متوقفة على الكفر واليسر متوقف على الإيمان ونجد فى الفقرة السابقة تناقض ما بين التالى :
الرجل قال أن الشرع تضمن التدرج من السهل للأشق كما تضمن الأشق للأسهل معا فقال:
"ولا يقال : إن أحكام الشريعة تتدرج من الأشد إلى الأيسر ، ولا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنها اشتملت على الأمرين معا"
ومع هذا قال أن الشره جاء بالتدرج من الأسهل للأشق فقال:
" والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرج في التشريع من الأيسر إلى الأشد كثيرة ، ولو أردنا تتبعها ، وذكر أدلتها وما يتفرع عنها من مسائل وأحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام"
وفى الباب الثانى ذكر أقوال من سماهم السلف فى الموضوع فقال:
" المقصد الثاني:
أقوال السلف في اختيار أيسر المذاهب:
تذرع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف والأئمة المتبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرخص ومن ذلك ، قول قتادة ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] وقول سفيان الثوري ( إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] وقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصدا العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] وقول ابن القيم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] وقول الكمال بن الهمام في التحرير : ( إن المقلد له أن يقلد من يشاء ، وان أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه ، لا أدري ما يمنعه من النقل أوالعقل و كون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمه عليه ، وكان (ص)يحب ما خفف عن أمته )
وقول الشاطبي : ( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل إلى طرف الانحلال ، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم ، الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف ، الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ) [ الموافقات : 4 / 285 ]
إلى غير ذلك مما وقفوا عليه فاحتجوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه ولو تأملنا ما أوردناه ( ولا أعلم لهم استدلالا بغيره من أقوال الأئمة ) لما رأينا فيه دليلا على التيسير الذي يدندن حوله المعاصرون ، فقتادة يدعوا إلى الترخص حيث شرع الله الرخصة ، فيقول : ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) ، ولا يقول : رخصوا باستحسانكم ، أولمجرد التخفيف عن العباد أومسايرتهم وابن تيمية يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، وليس الإفتاء بعدم حرمة الحرام أصلا ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أومجرد الكراهة ، وان ضعفت حجته ، و وهت شبهته أما ابن القيم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، خلافا لدعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام ، و نفي الكراهة عن المكروه ، و شتان ما بين المذهبين وما يروى عن سفيان لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرم ، ولكنه موجه إلى ما ينبغي أن يفتي به العالم من وقع في حرج متيقن ليعينه على القيام بما وجب عليه ، لا ليسقطه عنه ، وذلك كثيرا ما يقع في باب الكفارات ، وأداء النذور و نحوها وما روي عن ابن عيينة ، قال به غيره ، ولكنهم تحوطوا في ضبط صوره بالتمثيل له قال النووي : ( وأما من صح قصده , فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها , لتخليص من ورطة يمين و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ]
و ننبه هنا إلى أن ما روي عن السلف الصالح ، في الحث على التمسك بالعزائم ، والتحذير من الترخص المجرد عن الدليل ، أضعاف ما روي عنهم في التيسير والترخيص ، والعدل أن يجمع بين أقوالهم ، لا أن يسقط بعضها ، أو يضرب بعضها ببعض "
الرجل هنا بدلا من أن يرجع المسألة لكتاب الله أو حتى الروايات المنسوبة للنبى(ص) يرجعه لأقوال بشر والفيصل ليس هؤلاء البشر مهما بلغوا من العلم الفيصل هو نصوص الوحى
الرخصة والشدة كما يستعمل القوم تلك الألفاظ حكمها هو حكم الله فلا رخصة إلا بنص ولا شدة إلا بنص لأن كل شىء مبين موضح فى القرآن كما قال تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء" وقال "وكل شىء فصلناه تفصيلا"
وعاد الكاتب إلى حكاية السلف فقال :
"وربما اتضحت الصورة أكثر إذا قربناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، فإذا رجعنا إلى سيرهم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد والتيسير على النفس والغير ، ومن أبرز تلك المعالم :
أولا : تشديد العالم على نفسه أكثر مما يشدد على غيره
ولهذا المعلم ما يشهد له من السنة ، حيث أرشد إليه رسول الله (ص)إليه معاذ بن جبل ، حين أمره بالإيجاز إذا أم الناس في الصلاة ، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذا ، كما في الصحيحين و غيرهما
ثانيا : عرف عن السلف الصالح ، من الصحابة الكرام ومن بعدهم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه ، و هذا خلاف ما عليه ميسرة العصر ، من التيسير فيما كثر وقوع الناس فيه ومن ذلك قول عمر الفاروق : ( فلو أمضيناه عليهم ) حينما حكم بإيقاع طلاق المجلس ثلاثا ، وأمضاه على الناس ، لأنهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة
وكذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للصناع ، بعد أن فسدت الذمم و تغيرت النفوس ألا ترى أن عمر و علي رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين ، استحسانا ، رغم وجود ما يراه الميسرون المعاصرون مقتضيا للتيسير ، ومستلزما للتخفيف مراعاة ظروف المجتمع ، و رفعا للحرج عن الناس
ثالثا : أن من السلف من كان يفتي بالفتوى ، أو يقضي بالقضاء ، ثم يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلا وأقوم سبيلا ، إذ إن العبرة عنهم بما جاء من عند الله ، و ثبت عن رسول الله ، وليس بالتيسير أو التشديد
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري : ( أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس : من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا ، قال : فقدم عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال : { واتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة: 196 ] ، وان تأخذ بسنة رسول الله (ص)، فإن رسول الله (ص)لم يحل حتى نحر الهدي )
والأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحق كثيرة ، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرز السابقين ، و ينحو نحوهم ، فيقف عند الدليل ، و يرجع إليه إن بلغه ، ولو بعد حين ، ولا يجد غضاضة في أن يقول : ( تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي ) ؟
رابعا : كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيث دار ، فمنهم الميسر ومنهم المشدد ، ولكن عن علم و بصيرة و دليل
وكلهم من رسول الله مقتبس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
وان كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر ، ولكن الحامل لكل منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبي الهدى (ص)و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان : عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عمر فقد كان ( أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة ، و عبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد ، و كان يمنع من دخول الحمام ، و كان إذا دخله اغتسل منه ، وابن عباس كان يدخل الحمام ، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربة للوجه ، و ضربة لليدين إلى المرفقين ، ولا يقتصر على ضربة واحدة ، ولا على الكفين ، و كان ابن عباس يخالفه ، و يقول : التيمم ضربة للوجه ، والكفين ، و كان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ، و يفتي بذلك ، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى ، و كان ابن عباس يقول : ما أبالي قبلتها أو شممت ريحانا ، و كان يأمر من ذكر أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يتمها ، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط ) [ زاد المعاد : 2 / 47 و 48 ] قلت : ومع كل ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر من التشديد ولزوم الأحوط ، لم يغمز قناته أحد من السلف أوالخلف ، ولم يصمه أحد بوصمة التعسير ، على وجه التخطئة والتنفير ، بل غاية ما ذهب إليه مخالفوه هو عدم موافقته في تشديداته ، مع اعتبارها أمارة على ورعه و حسن اتباعه ، و عذر من ذهب مذهبه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مداره ولم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلا عن تبريره أو تسويغ القول والعمل به
قال أبو عبد الله الزركشي [ في المنثور : 1 / 20 ، 21 ] و هو يعدد أنواع التمني و يعرض حكم الشرع في كل منها : السابع : تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي قال الإمام الشافعي في ( الأم ) وقد روى عن عمر : ( لا يسترق عربي ) قال الشافعي لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا ، و كأنه أراد تغير الأحكام ولم يرد أن التمني كله حرام ) قلت : فلله درهم ما أبرهم ، وما أنبلهم حيث لا يسوغون مجرد كون الحرام حلالا ، فضلا عن تسويغه ، والإفتاء بحله ، ولو كان بلي أعناق النصوص ، و حشد الشواهد والشواذ من كل رطب و يابس ، من زلات المتقدمين ، و هفولت المتأخرين ، و سقطات المتابعين
إنها والله الخشية من العبد للمعبود ، فمن أو تيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، و هل العلم إلا الخشية ، وما مثل من كثر علمه وقلت خشيته إلا كمثل التاجر المدين ، تكثر بين يديه العروض ، ليس له منها شيء"
الكاتب هنا يتهم الصحابة بأنهم يفتوون على هواهم كما فى فتوى اعتبار طلقات المجلس الواحد ثلاثا وهو ما يخالف قوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"
فالطلاق إذا قيل فى المجلس الواحد وبعده عشرين مجلسا هو طلاق واحد فلابد لوقوع الطلاق الثانى من عودة المطلقة برضاها لمن طلقها بعد الطلقة الأولى وهكذا فى الثالث لابد لوقوعه من عودة المطلقة لمطلقها بعد المرة الثانية كما قال تعالى "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"
فالنصوص تحكم أى مسلم فمن عارض كتاب الله مهما كان يضرب بقوله عرض الحائط ولا قيمة لكلامه وهذا ما قاله المؤلف بقوله"يدورون مع الدليل " وهو النص وهو قول يناقض ما ذكره عن الفتاوى التى نسبها للصحابة
وبين الرجل فى الخاتمة أن المطلوب فى المفتى هو خشية الله وليس سعة العلم فقال:
"خاتمة
و بعد ، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية ، و هي جماع صفاة العالم الرباني ، تسوقه إلى الحق ، و تأطره عليه أطرا
قال صاحب الآداب الشرعية : ( و نقل المروزي عن أحمد أنه قيل له : لمن نسأل بعدك ؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق ، فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق وقال الأوزاعي كنا نمزح و نضحك ، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم و روى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : إن الفقه ليس بسعة الهذر و كثرة الرواية إنما الفقه خشية الله وقال الأوزاعي : بلغني أنه يقال : ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين المحرمات بالشبهات وقال الشافعي : زينة العلم الورع والحلم ، وقال أيضا لا يجمل العلم ، ولا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله , واصابة السنة , والخشية )
وهو كلام خاطىء فلابد من سعة العلم مع الخشية لقوله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فلم يقل الله أنهم أهل قلة العلم أو الخشية وإنما قال اهل الذكر وهو العلم الذى يولد الخشية
الكتاب تأليف أحمد بن عبد الكريم نجيب وهو يدور حول موضوع أن المفتين المحدثين يعملون على تيسير الأحكام للناس بشكل مفرط وفى هذا قال:
"ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء ، عمد بعض الميسرين إلى تكلف إيجاد مرجعية شرعية ، و تأصيل منهجية فقهية فجة ، تعمد إلى ما في نصوص الوحيين ، و كلام السابقين ، من أدلة على أن الدين يسر لا مشقة فيه ، و تتذرع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب ، والإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة ، إلى حد يبلغ حافة الإفراط ، ويخشى على من وقع في أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها ، أوالقول على الله بغير علم ، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله و رسوله وقد تأملت أدلة القوم النقلية ، فإذا هي آيات محكمات ، واخبار صحيحة ثابتة ، غير أني لم أجد فيها دليلا على ما ذهبوا إليه ، بل بعضها يدل على خلاف مذهبهم "
الرجل هنا ينعى على أهل الفتوى المحدثين تساهلهم فى إصدار الأحكام فى القضايا بعير دليل لمصلحة الناس دون النظر لتحريم الله هذا من تحليله
وقد بين المؤلف نصوص التيسير فى الوحى فقال:
"المقصد الأول:
نصوص التيسير من الكتاب والسنة:
استدل دعاة التيسير بعموم النصوص الدالة على أن التيسير و رفع المشقة مقصد من مقاصد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ]
و غفلوا عن الآية التي قبلها ، و فيها رفع رخصة الفطر في رمضان مع الكفارة لمن قدر على الصوم ، و هوما ثبت بقوله تعالى في الآية السابقة لها : { و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } [ البقرة : 184 ] روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت { و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ، كان من أراد أن يفطر و يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها قلت : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هومن التشديد وليس من التيسير ، في شيء ، فتأمل !
ومثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هوقوله تعالى : { و جاهدوا في الله حق جهاده هواجتباكم } مع أنه لا مشقة تفوق مشقة الجهاد والتكليف به ، فبقي أن يحمل رفع الحرج على ما رفع بنص الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء الميسرين ومن هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، وابو داود في سننه , واحمد في مسنده ، عن أم المؤمنين عائشة قالت : ( ما خير النبي (ص)بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يأثم ، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه )
وما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، ومسلم في الجهاد والسير عن أنس , عن النبي (ص)، قال : « يسروا ولا تعسروا ، و بشروا ولا تنفروا » و في رواية للبخاري في كتاب الأدب : « يسروا ولا تعسروا ، و سكنوا ولا تنفروا » وروى مسلم وابو داود عن أبى موسى قال : كان رسول الله (ص)إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال : « بشروا ولا تنفروا و يسروا ولا تعسروا »
قلت : جميع ما تقدم من نصوص الوحيين ، وكثير غيره مما يقرر قيام الشريعة الغراء على اليسر ونفي الضرر ، ورفع الحرج ، فهمه الميسرون على غير وجهه ، وحملوه ما لا يحتمل ، متعنتين في توجيهه لنصرة شبهتهم القاضية بجعل التيسير في الفتوى منهاجا رشدا ، و فيما يلي نقض غزلهم ، وكشف شبههم إن شاء الله :
أولا : ثمة فرق لغوي بين اليسر والتيسير ، فاليسر صفة لازمة للشريعة الإسلامية ، ومقصد من مقاصدها التشريعية جاء به الكتاب والسنة ، وانزله النبي (ص)والسلف الصالح منزلته ، أما التيسير فهومن فعل البشر ، ويعني جعل ما ليس بميسر في الأصل يسيرا ، وهذا موطن الخلل
ثانيا : إن اختيار النبي (ص)للأيسر في كل أمرين خير بينهما ، كما في حديث عائشة المتقدم فيه أربع نكات لطيفة :
النكتة الأولى : أن الاختيار واقع منه (ص)فيما خير فيه ، وليس في كل ما أوحي إليه أو كلف به ، هواوامته ، ومثال ذلك الاختلاف في صيغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، وما إليه حيث لا يعيب من أخذ بهذا على من أخذ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما
والثانية : تقييد التخيير بما لم يكن إثما ، ولا شك أن العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( ومن باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلة الشرعية إثم يخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء
والثالثة : أن التخيير المذكور في الحديث يحمل على أمور الدنيا لا الدين ، و هذا ما فهمه أهل العلم قبلنا ، وقد أمرنا بالرد إليهم ، ومنهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قوله بين أمرين : أي من أمور الدنيا لأن أمور الدين لا إثم فيها و وقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح ، واما من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ]
والنكتة الرابعة والأخيرة : أن هذا الخبر ما لم يقيد بما سبق سيكون معارضا باختيار النبي (ص)الأشق على نفسه ، كقيامه الليل حتى تتشقق قدماه مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلا ، و بين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف ، وان كانت السعة أسهل منه ، والإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ]"
الرجل كلامه صحيح هنا فلا يوجد يسر أو تيسير ما دام الأمر محرما فأحكام الله هى أحكام لا تتغير لأنها فى الأصل عادلة ومن ثم لا يوجد اختيار إلا فى الأحكام التى خير فيها الله المسلم بين أمرين أو ثلاثة أو أكثر مثل حكم القتل ففيه القتل والعفو دون دية والعفو مع الدية كما قال تعالى "كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" ومثل حكم الأكل " ونفضل بعضها على بعض فى الأكل" فالمسلم مخير بين مئات أو آلاف الأطعمة
التخيير هنا هو ما يسمونه اليسر أو التيسير ولكنه كما قلنا ترتبط بتلك الأحكام الاختيارية
وقد أخبرنا الكاتب بأنه لا تكليف بدون مشقة فقال:
"لا تكليف بدون مشقة ، وان كانت المشقة الحاصلة بكل تكليف بحسبه وهي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخير أيسر المذاهب دفعا لكل مشقة ، ترتب على ذلك إسقاط كثير من التكاليف الشرعية قال الشاطبي ( المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو اخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا ) [ الموافقات : 2 / 128 ] وقال الإمام شمس الدين ابن القيم ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ]وقال أيضا في معرض كلامه عن رخص السفر : ( إن المشقة قد علق بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض والم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدا أو على جنب ، وذلك نظير قصر العدد ، وان كانت مشقة تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب ، ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومنه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ] قلت : فمن آثر الراحة والدعة في مقام الجد والنصب ، فقد خالف الصواب ، و غفل عما أريد منه ، وما أنيط به ، ولو كان في البعد عن الجد والجهد في الطاعة بدون مرخص شرعي مندوحة لغير ذوي الأعذار ، لما قال تعالى لخير خلقه ، واحبهم إليه : ( فإذا فرغت فانصب ) [ الانشراح : 7 ] "
ما ذكر هنا عن المشقة والتشديد هو ضرب من الخروج على شرع الله فأحكام الله عادلة وشدتها ويسرها وهو ثقلها أى كبرها وخفتها مرتبط بالإنسان نفسه فإن كانت مؤمن بها فهى خفيفة عليه وإن كافر بها فهى ثقيلة عليه كما قال تعالى
"واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"
وقد دعا المؤمنون الله ألا يشرع لهم إصرا أحكام ثقيلة أى إصر كما قال تعالى :
"ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"
ولذا شرع الله كله سهل أى ليس فيها حرج أى أذى كما قال تعالى " وما جعل عليكم فى الدين من حرج"
ثم تحدث عن التنفير من الشدة فقال :
"ما ورد في التحذير والتنفير من التشديد والتعسير والمشاقة والتنطع ، والتعمق - وما إلى ذلك - على النفس والغير ، لا يدل على التخيير ( أو التخير ) في الأحكام الشرعية ، لدلالة النصوص على التكليف بالأشد في مواضع كثيرة ، ولأن النسخ بالأشد مما جاءت به الشريعة بالاتفاق ، فضلا عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطع ونحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع ، كالوصال في الصيام ، فهومما نهي عنه ، وان كان مقدورا عليه بدون مشقة ، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمن وجب عليه حتى وان ثبتت مشقته ، ما دام مقدورا عليه ، وقد تقدم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أن الأصل في التكليف ، أنه قائم على المشقة المقدور عليها
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ، ولا مستحب ، بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ، ولا مكروه ، بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات ، وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى ، شدد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة ، و في هذا تنبيه على كراهة النبي (ص)لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، وان كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك ، متأولين معذورين ، أو غير متأولين ولا معذورين ) [ اقتضاء الصراط : 1/103 ]
وقال ابن القيم ( نهى النبي (ص)عن التشديد في الدين ، وذلك بالزيادة على المشروع ، واخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، واما بالشرع ؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل الوسواس ، فإنهم شددوا على أنفسهم ، فشدد عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك ، و صار صفة لازمة لهم ) [ إغاثة اللهفان : 1/132 ]
ولا يقال : إن أحكام الشريعة تتدرج من الأشد إلى الأيسر ، ولا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنها اشتملت على الأمرين معا ، و هذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول ، والأمثلة عليها كثيرة من الكتاب والسنة ، ومن استقرأها وقف على حقيقة مفادها أن التدرج من الأيسر إلى الأشد هو الغالب في النسخ ، و هوما يصلح دليلا على نقيض ما ذهب إليه دعاة التيسير ، ومؤصلوه في هذا الزمان
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدم ذكره من إيجاب الصيام على كل مكلف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه
و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرج من الأيسر إلى الأشد ، حيث كان مباحا على الأصل ، ثم نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على ربو اثمه على نفعه ، ثم حرم أثناء الصلاة خاصة ، ثم نزل تحريمه في الكتاب ، وحد شاربه في السنة و كذلك الحال في تشديد حد الزنا من الإيذاء باللسان واليد ، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، ثم الجلد للبكر ( والتغريب في بعض المذاهب ) ، والرجم للمحصن ونحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أول الأمر ، ثم الإذن فيه ، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرج في التشريع من الأيسر إلى الأشد كثيرة ، ولو أردنا تتبعها ، وذكر أدلتها وما يتفرع عنها من مسائل وأحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام
و هذا يدل على نقيض ما تذرع به الميسرون ، يسر الله لنا ولهم سبل الهدى ، ووقانا مضلات الهوى وموارد الردى فإذا أضيف إليه ما قررناه آنفا ، من بطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير ، ظهر لنا الحق الصريح ، و هو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح ، و وجوب الرد إلى الله تعالى و رسوله على وجه التسليم والقبول ، والله أعلم واحكم "
كرر الرجل نفس الخطأ وهو أن أحكام الله بها مشقة وتشديد وكما قلنا الشدة متوقفة على الكفر واليسر متوقف على الإيمان ونجد فى الفقرة السابقة تناقض ما بين التالى :
الرجل قال أن الشرع تضمن التدرج من السهل للأشق كما تضمن الأشق للأسهل معا فقال:
"ولا يقال : إن أحكام الشريعة تتدرج من الأشد إلى الأيسر ، ولا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنها اشتملت على الأمرين معا"
ومع هذا قال أن الشره جاء بالتدرج من الأسهل للأشق فقال:
" والأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرج في التشريع من الأيسر إلى الأشد كثيرة ، ولو أردنا تتبعها ، وذكر أدلتها وما يتفرع عنها من مسائل وأحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام"
وفى الباب الثانى ذكر أقوال من سماهم السلف فى الموضوع فقال:
" المقصد الثاني:
أقوال السلف في اختيار أيسر المذاهب:
تذرع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف والأئمة المتبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرخص ومن ذلك ، قول قتادة ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] وقول سفيان الثوري ( إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] وقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصدا العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] وقول ابن القيم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] وقول الكمال بن الهمام في التحرير : ( إن المقلد له أن يقلد من يشاء ، وان أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه ، لا أدري ما يمنعه من النقل أوالعقل و كون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمه عليه ، وكان (ص)يحب ما خفف عن أمته )
وقول الشاطبي : ( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل إلى طرف الانحلال ، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم ، الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف ، الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ) [ الموافقات : 4 / 285 ]
إلى غير ذلك مما وقفوا عليه فاحتجوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه ولو تأملنا ما أوردناه ( ولا أعلم لهم استدلالا بغيره من أقوال الأئمة ) لما رأينا فيه دليلا على التيسير الذي يدندن حوله المعاصرون ، فقتادة يدعوا إلى الترخص حيث شرع الله الرخصة ، فيقول : ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ) ، ولا يقول : رخصوا باستحسانكم ، أولمجرد التخفيف عن العباد أومسايرتهم وابن تيمية يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، وليس الإفتاء بعدم حرمة الحرام أصلا ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أومجرد الكراهة ، وان ضعفت حجته ، و وهت شبهته أما ابن القيم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، خلافا لدعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام ، و نفي الكراهة عن المكروه ، و شتان ما بين المذهبين وما يروى عن سفيان لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرم ، ولكنه موجه إلى ما ينبغي أن يفتي به العالم من وقع في حرج متيقن ليعينه على القيام بما وجب عليه ، لا ليسقطه عنه ، وذلك كثيرا ما يقع في باب الكفارات ، وأداء النذور و نحوها وما روي عن ابن عيينة ، قال به غيره ، ولكنهم تحوطوا في ضبط صوره بالتمثيل له قال النووي : ( وأما من صح قصده , فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها , لتخليص من ورطة يمين و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ]
و ننبه هنا إلى أن ما روي عن السلف الصالح ، في الحث على التمسك بالعزائم ، والتحذير من الترخص المجرد عن الدليل ، أضعاف ما روي عنهم في التيسير والترخيص ، والعدل أن يجمع بين أقوالهم ، لا أن يسقط بعضها ، أو يضرب بعضها ببعض "
الرجل هنا بدلا من أن يرجع المسألة لكتاب الله أو حتى الروايات المنسوبة للنبى(ص) يرجعه لأقوال بشر والفيصل ليس هؤلاء البشر مهما بلغوا من العلم الفيصل هو نصوص الوحى
الرخصة والشدة كما يستعمل القوم تلك الألفاظ حكمها هو حكم الله فلا رخصة إلا بنص ولا شدة إلا بنص لأن كل شىء مبين موضح فى القرآن كما قال تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء" وقال "وكل شىء فصلناه تفصيلا"
وعاد الكاتب إلى حكاية السلف فقال :
"وربما اتضحت الصورة أكثر إذا قربناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، فإذا رجعنا إلى سيرهم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد والتيسير على النفس والغير ، ومن أبرز تلك المعالم :
أولا : تشديد العالم على نفسه أكثر مما يشدد على غيره
ولهذا المعلم ما يشهد له من السنة ، حيث أرشد إليه رسول الله (ص)إليه معاذ بن جبل ، حين أمره بالإيجاز إذا أم الناس في الصلاة ، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذا ، كما في الصحيحين و غيرهما
ثانيا : عرف عن السلف الصالح ، من الصحابة الكرام ومن بعدهم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه ، و هذا خلاف ما عليه ميسرة العصر ، من التيسير فيما كثر وقوع الناس فيه ومن ذلك قول عمر الفاروق : ( فلو أمضيناه عليهم ) حينما حكم بإيقاع طلاق المجلس ثلاثا ، وأمضاه على الناس ، لأنهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة
وكذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للصناع ، بعد أن فسدت الذمم و تغيرت النفوس ألا ترى أن عمر و علي رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين ، استحسانا ، رغم وجود ما يراه الميسرون المعاصرون مقتضيا للتيسير ، ومستلزما للتخفيف مراعاة ظروف المجتمع ، و رفعا للحرج عن الناس
ثالثا : أن من السلف من كان يفتي بالفتوى ، أو يقضي بالقضاء ، ثم يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلا وأقوم سبيلا ، إذ إن العبرة عنهم بما جاء من عند الله ، و ثبت عن رسول الله ، وليس بالتيسير أو التشديد
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري : ( أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس : من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا ، قال : فقدم عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال : { واتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة: 196 ] ، وان تأخذ بسنة رسول الله (ص)، فإن رسول الله (ص)لم يحل حتى نحر الهدي )
والأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحق كثيرة ، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرز السابقين ، و ينحو نحوهم ، فيقف عند الدليل ، و يرجع إليه إن بلغه ، ولو بعد حين ، ولا يجد غضاضة في أن يقول : ( تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي ) ؟
رابعا : كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيث دار ، فمنهم الميسر ومنهم المشدد ، ولكن عن علم و بصيرة و دليل
وكلهم من رسول الله مقتبس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
وان كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر ، ولكن الحامل لكل منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبي الهدى (ص)و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان : عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عمر فقد كان ( أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة ، و عبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد ، و كان يمنع من دخول الحمام ، و كان إذا دخله اغتسل منه ، وابن عباس كان يدخل الحمام ، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربة للوجه ، و ضربة لليدين إلى المرفقين ، ولا يقتصر على ضربة واحدة ، ولا على الكفين ، و كان ابن عباس يخالفه ، و يقول : التيمم ضربة للوجه ، والكفين ، و كان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ، و يفتي بذلك ، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى ، و كان ابن عباس يقول : ما أبالي قبلتها أو شممت ريحانا ، و كان يأمر من ذكر أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يتمها ، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط ) [ زاد المعاد : 2 / 47 و 48 ] قلت : ومع كل ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر من التشديد ولزوم الأحوط ، لم يغمز قناته أحد من السلف أوالخلف ، ولم يصمه أحد بوصمة التعسير ، على وجه التخطئة والتنفير ، بل غاية ما ذهب إليه مخالفوه هو عدم موافقته في تشديداته ، مع اعتبارها أمارة على ورعه و حسن اتباعه ، و عذر من ذهب مذهبه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مداره ولم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلا عن تبريره أو تسويغ القول والعمل به
قال أبو عبد الله الزركشي [ في المنثور : 1 / 20 ، 21 ] و هو يعدد أنواع التمني و يعرض حكم الشرع في كل منها : السابع : تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي قال الإمام الشافعي في ( الأم ) وقد روى عن عمر : ( لا يسترق عربي ) قال الشافعي لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا ، و كأنه أراد تغير الأحكام ولم يرد أن التمني كله حرام ) قلت : فلله درهم ما أبرهم ، وما أنبلهم حيث لا يسوغون مجرد كون الحرام حلالا ، فضلا عن تسويغه ، والإفتاء بحله ، ولو كان بلي أعناق النصوص ، و حشد الشواهد والشواذ من كل رطب و يابس ، من زلات المتقدمين ، و هفولت المتأخرين ، و سقطات المتابعين
إنها والله الخشية من العبد للمعبود ، فمن أو تيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، و هل العلم إلا الخشية ، وما مثل من كثر علمه وقلت خشيته إلا كمثل التاجر المدين ، تكثر بين يديه العروض ، ليس له منها شيء"
الكاتب هنا يتهم الصحابة بأنهم يفتوون على هواهم كما فى فتوى اعتبار طلقات المجلس الواحد ثلاثا وهو ما يخالف قوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"
فالطلاق إذا قيل فى المجلس الواحد وبعده عشرين مجلسا هو طلاق واحد فلابد لوقوع الطلاق الثانى من عودة المطلقة برضاها لمن طلقها بعد الطلقة الأولى وهكذا فى الثالث لابد لوقوعه من عودة المطلقة لمطلقها بعد المرة الثانية كما قال تعالى "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"
فالنصوص تحكم أى مسلم فمن عارض كتاب الله مهما كان يضرب بقوله عرض الحائط ولا قيمة لكلامه وهذا ما قاله المؤلف بقوله"يدورون مع الدليل " وهو النص وهو قول يناقض ما ذكره عن الفتاوى التى نسبها للصحابة
وبين الرجل فى الخاتمة أن المطلوب فى المفتى هو خشية الله وليس سعة العلم فقال:
"خاتمة
و بعد ، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية ، و هي جماع صفاة العالم الرباني ، تسوقه إلى الحق ، و تأطره عليه أطرا
قال صاحب الآداب الشرعية : ( و نقل المروزي عن أحمد أنه قيل له : لمن نسأل بعدك ؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق ، فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق وقال الأوزاعي كنا نمزح و نضحك ، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم و روى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : إن الفقه ليس بسعة الهذر و كثرة الرواية إنما الفقه خشية الله وقال الأوزاعي : بلغني أنه يقال : ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين المحرمات بالشبهات وقال الشافعي : زينة العلم الورع والحلم ، وقال أيضا لا يجمل العلم ، ولا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله , واصابة السنة , والخشية )
وهو كلام خاطىء فلابد من سعة العلم مع الخشية لقوله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فلم يقل الله أنهم أهل قلة العلم أو الخشية وإنما قال اهل الذكر وهو العلم الذى يولد الخشية