-6-
المعضلة أن عقولنا مصممة بحيث تتفادى الألم الجسدي و النفسي , و التعلم عن الأسواق لن يعوّض عن الآثار السلبية التي تتركها آليات تجنيبنا الألم على تداولنا .
الجميع يفهم كيفية تجنب الألم الجسدي , فإذا وضعت يدك بدون قصد على موقد ساخن , فإن يدك ستبتعد عن الحرارة تلقائيا , إنها ردة فعل غريزية .
و لكن , عندما يتعلق الأمر بتجنب الألم النفسي و العواقب السلبية التي يخلقها , خاصة للمتداولين , فالقليل من الناس يفهمون الديناميكية وراء ذلك .
من الهام جدا لتقدمك في تداولك أن تفهم هذه الآثار السلبية , و أن تتعلم كيف تتحكم بنفسك شعوريا و إراديا بطريقة تساعدك على تحقيق أهدافك .
عقولنا لديها عدة أساليب لحمايتنا من المعلومات التي تعلمنا أن ندركها و نفهمها على أنها معلومات مؤلمة لنا .
على سبيل المثال , على مستوى شعوري واعي لدينا , يمكننا أن نبرر , أو نسوغ , أو نخلق سببا لنبقى في صفقة خاسرة .
بعض الطرق التقليدية الأخرى لكي نقوم بذلك هي بأن نتصل بأصدقائنا المتداولين , أو نكلّم سمسارنا , أو ننظر إلى مؤشرات لم نستخدمها سابقا , كل ذلك لغرض صريح و هو جمع معلومات غير مؤلمة من أجل إنكار صحة المعلومات المؤلمة .
أما على المستوى اللا شعوري أو اللا واعي , فإن عقولنا تلقائيا ستغيّر , أو تحرّف , أو تستبعد معلومات من إدراكنا الواعي الشعوري .
بعبارة أخرى , نحن لا نعرف في مستوى الوعي الشعوري لدينا بأن آليات تجنيبنا الألم تقوم باستبعاد أو تغيير أو تحريف المعلومات التي يقدمها لنا السوق .
فكّر في حالة تكون فيها في صفقة خاسرة , حيث يقوم السوق بثبات بتشكيل قمم متصاعدة و قيعان متصاعدة , أو قمم هابطة و قيعان هابطة وذلك بعكس إتجاه صفقتك ,
بينما ترفض الإعتراف بأنك في صفقة خاسرة لأنك ركزت كل إنتباهك على تكات السعر التي تتحرك في مصلحتك ,
و لنقل أنه وسطيا , فإن تكة سعرية واحدة فقط تكون في مصلحتك من بين كل أربع أو خمس تكات سعرية ,
لكن ذلك غير مهم بالنسبة لك لأنه في كل مرة تحصل على تكة في صالحك , فإنك تقتنع بأن السوق قد عكس إتجاهه و بدأ يعود في إتجاه صفقتك .
ولكن بدلا من ذلك فالسوق يتابع حركته معاكسا لصفقتك ,
في مرحلة ما , تصبح قيمة خسارتك بالدولار ضخمة جدا إلى درجة أنه لايمكنك إنكارها فتقوم بإغلاق الصفقة أخيرا .
و تكون ردة الفعل الأولى للمتداولين عامة عندما يراجعون صفقة كهذه هي "لماذا لم أقم ببساطة بإقفال صفقتي على خسارة ثم أعكس الصفقة ؟" .
إن الفرصة لفتح صفقة في الإتجاه المعاكس كانت سهلة التمييز لو لم يكن هناك شيء على المحك .
لكننا كنا عميانا عن هذه الفرصة عندما كنا داخل الصفقة , لأنه في ذلك الوقت فالمعلومات التي كانت تشير لوجود الفرصة تم تعريفها على أنها معلومات مؤلمة , فقمنا بحجبها عن وعينا .
عندما بدأ متداولنا الإفتراضي تداوله بادئ الأمر , كان مستمتعا , و كان في حالة عقلية مريحة و لامبالية , لم يكن لديه خطة شخصية و لاشيء ليثبته .
طالما كان يربح كان ينفذ صفقاته من منظور "دعونا نرى ما سيحصل" , و كلما ربح أكثر , كلما قل في نظره إحتمال خسارته .
و عندما يتعرض للخسارة في نهاية الأمر , يكون حينها في حالة عقلية أبعد ما تكون عن توقع الخسارة .
و بدلا من أن يفترض أن سبب ألمه كان توقعه الخاطئ حول ماكان يجب على السوق أن يفعله أو لايفعله , فإنه يلقي باللوم على السوق , و يرى أن إصلاح ذلك يتم بإكتساب المعرفة عن السوق , و بذلك يمكنه أن يمنع مثل هذه التجارب من أن تتكرر .
بعبارة أخرى , لقد قام بتحول دراماتيكي مفاجئ في منظوره , تحول من اللا مبالاة إلى منع الألم من خلال تجنب الخسائر .
المشكلة أن منع الألم عبر تجنب الخسائر هو أمر لا يمكن تحقيقه .
فالسوق يولد أنماط سلوكية و هذه الأنماط تكرر نفسها , و لكن ليس كل مرة .
لذلك أكرر , لا يوجد طريقة ممكنة لنتفادى الخسارة أو لنتفادى أن نكون مخطئين .
و متداولنا لن يستشعر حقائق التداول هذه , لأن هناك قوتين قسريتين تدفعانه إلى الأمام و هما :
(1) أنه يرغب بشدة أن يستعيد ذلك الشعور بالربح .
(2) أنه متحمس للغاية لكل معارف السوق التي يكتسبها .
لكن ما لا يدركه أنه على الرغم من حماسته هذه , فإنه عندما ينتقل من الحالة العقلية المريحة اللا مبالية إلى حالة من التفكير بالمنع و التفادي و التجنب , فإنه بذلك ينتقل من الموقف السلوكي الإيجابي إلى السلبي .
فهو لم يعد يصب تركيزه على الربح فحسب , و إنما على كيفية تفاديه الألم عن طريق منع السوق من إيذائه مرة أخرى .
هذا النوع من المنظور السلبي لا يختلف أبدا عن حالة لاعب تنس أو لاعب غولف يصب تركيزه على محاولة عدم إرتكاب خطأ ما , فكلما حاول أكثر , كلما إرتكب أخطاء أكثر .
ولكن , هذا النمط من التفكير يمكن تمييزه بشكل أسهل بكثير في الألعاب الرياضية , لأنه في الألعاب الرياضية هناك علاقة أوضح بين تركيز المرء و بين نتائجه .
أما في التداول فهذه العلاقة يمكن أن تُحجب و يكون من الأصعب ملاحظتها نتيجة للمشاعر الإيجابية التي تتولد من إكتشاف معلومات جديدة في بيانات و سلوك السوق ,
أي بما أنه يشعر بشعور جيد , فليس هناك من سبب يدعوه لأن يشتبه بوجود خطأ ما ,
إلا أنه إلى نفس الدرجة _التي يركز فيها على تجنب الألم_ فإلى تلك الدرجة سيخلق نفس التجارب التي كان يحاول تجنبها .
بعبارة أخرى , كلما شعر أكثر أنه يجب عليه أن يربح و أن لا يخسر , كلما قلّ تحمله لأية معلومة تشير إلى أنه لا يحصل على مايريده ,
و كلما زادت المعلومات التي يمكنه حجبها , كلما قلت قدرته على رؤية الفرص ليستغلها في مصلحته بأفضل شكل .
فالتعلم أكثر و أكثر عن الأسواق فقط من أجل تفادي الألم سوف يفاقم مشاكله , لأنه كلما تعلم أكثر , كلما زادت و بشكل طبيعي توقعاته من الأسواق ,
مما يزيد من ألمه عندما لاتقوم الأسواق بدورها كما يراه هو .
لقد خلق و من دون قصد حلقة مفرغة , حيث كلما تعلم أكثر , كلما ضعف و وهن أكثر , و كلما ضعف أكثر , كلما شعر أنه مجبر على أن يتعلم أكثر .
و ستستمر هذه الحلقة المفرغة إلى أن يعتزل التداول بإشمئزاز , أو أن يعترف بأن السبب الجذري لمشاكله في التداول هو منظوره , وليس قلة علمه و معرفته بالسوق .