تأثير البترو دولار على قيمة الدولار الامريكى- التاريخ والاهداف والمستقبل
بعد أنهيار معيار الذهب (بريتون وودز) في أوائل السبعينيات، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية في صفقة للتوصل إلى توحيد أسعار النفط وتقويمها بالدولار الأمريكي. وقد ولدت هذه الصفقة نظام ( البترودولار) وهو ما يعد تحولًا نموذجيًا من العملات المدعومة بالذهب وأسعار الصرف المرتبطة إلى أنظمة سعرية غير مدعومة وعائمة. وكان لنظام البترودولار دورًا أساسيًا في رفع قيمة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية. ونتيجة لذلك، تتمتع الولايات المتحدة الأمريكية بعجز تجاري على أساس مستمر وتفوق اقتصادي عالمي. كما يضمن النظام للأسواق المالية في الولايات المتحدة السيولة وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية من خلال إعادة تدوير البترودولار. ومع ذلك، وعند مناقشة تأثير البترودولارات على عملة الدولار، فإن ذلك يتطلب فهمًا واضحًا لتاريخ البترودولار.
تاريخ البترودولار:
عندما واجهت الولايات المتحدة الامريكية تراكم الديون بسبب حرب فيتنام، وتصاعد التضخم، مع معدلات أنفاق مفرطة، واستمرار عجز ميزان المدفوعات، قررت إدارة نيكسون فجأة إنهاء تحويل الدولار إلى ذهب. وبعد هذا القرار المثير للصدمة، انتهى عهد الذهب وبدأت الولايات المتحدة في الانهيار سريعا وسط تفاقم لمستويات التضخم. وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الدخول في عدة صفقات ثنائية صيغت بعناية مع المملكة العربية السعودية بدءا من عام 1974 لتعزيز العلاقات التجارية والسياسية، وتسويق السلع والخدمات المستوردة من الولايات المتحدة، وإعادة تدوير البترودولارات السعودية.
نظام البترو دولار
وساعد التعاون الاقتصادي وإطار إعادة التدوير البترولي الامريكى في التأثير على السعودية في إقناع الدول الأخرى الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) أيضا ببيع النفط بالدولار الأمريكي. وبموجب الاتفاق ضمنت السعودية ودول عربية أخرى نفوذ الولايات المتحدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى جانب المساعدة العسكرية الأمريكية خلال مناخ سياسي مزعج بشكل متزايد، والذي شهد الغزو السوفيتي لأفغانستان، وسقوط الشاه الإيراني، والحرب الإيرانية العراقية. ومن هذه الاتفاقية المفيدة للطرفين، ولد نظام البترودولار.
ما فائدة نظام البترودولار؟
النفط الخام هو أكثر السلع المرغوبة من قبل الناس حول العالم. وبما أن هذه السلعة مقومة بالدولار الأمريكي، فقد زاد قوة العملة الامريكية كعملة عالمية لا غنى عنها على الاطلاق. وبالفعل أظهر المسح الثلاثي الذي أجراه بنك التسويات الدولية أن 88 في المائة من معاملات الصرف الأجنبي التي بدأت في شهر أبريل 2016 كانت تشمل الدولار الأمريكي من جانب واحد. وهذه الحالة تمكن العملة الخضراء من التمتع بميزة التمويل المستمر لعجز الحساب الجاري في البلاد من خلال إصدار الأصول المقومة بالدولار بأسعار فائدة منخفضة للغاية.
ومع ذلك، فإن الدول التي تمتلك ديونًا أمريكية كبيرة ( من خلال شراء السندات) مثل الصين كانت لديها الكثير من المخاوف والتى كانت تتعلق بخسائرها القوية في حالة انخفاض قيمة الدولار الأمريكي. ومع ذلك، فإن أمتياز استمرار تشغيل العجز في الحساب الجاري يأتي بتكلفة على الولايات المتحدة. حيث إن أمريكا ملزمة بإدارة عجز الحساب الجاري والوفاء بمتطلبات الاحتياطي في الاقتصاد العالمي الذي ينمو باستمرار. وإذا توقفت الولايات المتحدة الأمريكية عن تشغيل العجز، فقد يتسبب ذلك فى أزمة سيولة عالمية ستؤدى فى نهاية المطاف الى انكماش اقتصادي عالمى. ومن ناحية أخرى، إذا استمر العجز في البقاء إلى أجل غير مسمى، فإن دولًا أخرى ستبدأ في التشكيك في تقييم الدولار الأمريكي. وقد يؤدي هذا إلى فقدان أهمية الدولار كعملة احتياطية.
كيفية إعادة تدوير البترودولار؟
يمكن أن يؤدي نظام البترودولار أيضًا إلى خلق فائض في احتياطيات الدولار الأمريكي مع الدول المنتجة للنفط. ومن الأهمية بمكان أن يتم إعادة تدوير هذه الاحتياطيات. حيث سيتم تحويل هذه الاحتياطيات الفائضة من الدولارات الأمريكية المتاحة لهذه الدول لدعم الاستهلاك المحلي، وتقدم القروض إلى الدول النامية للوفاء بواجبات ميزان المدفوعات للدول المنتجة للنفط، أو الاستثمار في الأصول المقومة بالدولار الأمريكي. والاستثمار في الأصول المقومة بالدولار الأمريكي يفيد الولايات المتحدة بقدر كبير. هذا لأنه يساعد البترودولارات على العودة إلى أمريكا. ويمكن بعد ذلك استخدام الدولار المعاد تدويره لشراء الأوراق المالية الأمريكية، على سبيل المثال، سندات الخزانة، وهذا يساهم في تحسين السيولة في الأسواق المالية، والحفاظ على أسعار الفائدة عند مستويات أدنى، وتعزيز النمو غير التضخمي. وهذا بدوره يساعد بلدان أوبك على تجنب مخاطر التحويل والاستثمار في الأصول الأمريكية الآمنة.
وفي الآونة الأخيرة، أثير بعض القلق بسبب الحديث عن تحويل البترودولارات إلى عملات مثل اليوان الصيني. وهناك ما يبرر القلق وهناك بعض المزايا للقلق. وذلك لأن المشهد في سوق الطاقة يتغير عالمياً ويشير إلى نهاية فعلية للاتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ووفقا للخبراء، تتحول الولايات المتحدة إلى واحدة من المصدرين الرئيسيين للطاقة لأول مرة منذ الستينيات. ومن المتوقع أن يؤدي هذا التغيير في سوق الطاقة إلى جانب قوة قطاع الطاقة في الولايات المتحدة إلى انتقال سلس من البترودولارات. ويرجع ذلك إلى أن صادرات الطاقة ستحول اتجاه التدفقات الرأسمالية السعودية من مشتريات الخزانة، وتساهم في زيادة الطلب العالمي على الدولار الأمريكي، وهو ما يتجذر في متطلبات الطاقة. وميزة أخرى ستتمتع بها الولايات المتحدة هي زيادة أمن الطاقة المحلي. وهذا هو السبب الرئيسي في توقيع الولايات المتحدة على اتفاقية البترودولار مع السعودية عام 1973.
ومع ذلك، ومن غير المتوقع أن يحدث هذا التحول بين ليلة وضحاها، حيث يمكن أن يؤثر تخفيض أسعار البترودولارات المعاد تدويرها تأثيرا كبيرا على سيولة أسواق رأس المال في الولايات المتحدة. وهذا بدوره سيزيد من تكاليف الاقتراض للشركات والمستهلكين والحكومات بسبب ندرة الأموال.
هل نظام البترودولار وصل الى نهايته ؟
كل التوقعات تشير الى قرب أنتهاء هذا النظام. فالمملكة العربية السعودية تتغير نحو الافضل لمستقبل مشرق لا يعتمد على النفط فقط بل يستغل كل ثروات المملكة القيمة ليكون هناك الكثير من مصادر الدخل وعدم الاعتماد على مصدر واحد- النفط – . ولى العهد السعودى محمد بن سلمان يولى كل الاهتمام لهذا التوجه ضمن رؤية 2030 لتصبح المملكة العربية السعودية فى مصاف الدول العظمى متعددة المصادر. وتهدف الرؤية الى تنويع مصادر الدولة سريعا من الاعتماد على النفط إلى مزيج من الصناعات والرعاية الصحية والسياحة. هدف القيادة السعودية أثبت بأنه الاصح خاصة مع أنهيار أسعار النفط الخام العالمية الى ما دون الصفر لاول مرة فى التاريخ.
ولتمويل هذا الطموح قامت المملكة العربية السعودية بطرح ما يعادل 5% حصة من قيمة أرامكو – الشركة الاغلى فى العالم – فى البورصة السعودية من أجل جمع 100 مليار دولار. وغيرها من مصادر التمويل لانجاز هدف الرؤية الطموحة فى أقل وقت ممكن.
دور الصين فى القضاء على البترودولار : يمكن لصندوق الثروة السيادية الصيني الآمن أن يفوز بشراء حصة كبيرة من طرح أرامكو، وهناك أسباب استراتيجية جيدة تدعو إلى ذلك. وسيساعد الاتفاق السريع على استقرار الوضع المالي والسياسي اليائس على حافة المصالح الآسيوية المتنامية بسرعة في الصين، وإبقاء المملكة العربية السعودية إلى جانبها كمورد للطاقة. حيث لدى الصين دولارات قياسية يجب التصرف فيها، ومن شأن ترتيب متبادل أن يبشر بعهد جديد من التعاون الملموس. وهو ما يكون مزعجا للولايات المتحدة الامريكية ونفوذها فى المنطقة ككل.
الولايات المتحدة والصين
في الحقيقة، ولهذا السبب تجد أمريكا المثقلة بالديون نفسها في الخلف طوال الوقت في أى مناوشات مالية مع الصين. ومع أنفتاح المملكة العربية السعودية أمام العالم أجمع ستكون الصين بطبيعة الحال جزء من هذا الانفتاح الطموح ولما لا والصين على أعتاب خطوة واحدة لتكون أكبر أقتصاد فى العالم وليس فى المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وعليه فيبدو من المنطقي أن يتم فصل الريال السعودي في نهاية المطاف عن الدولار الأمريكي وإدارته بما يتماشى مع سلة عملات عملائه من النفط، والتي يهيمن عليها اليوان الصينى.
دور سعر العملات على البترودولار: سوف تؤثر سياسات العملة المستقبلية التي تتبعها كلا من الصين والمملكة العربية السعودية وتفاعلها على الدولار. حيث تريد الصين استخدام عملتها الخاصة في الصفقات التجارية، ولكن يجب ألا تغرق الأسواق باليوان، خشية أن تفقد السيطرة على عملتها. لذا يجب أن يكون تدويل اليوان بعملية تدريجية، حيث يتم توسيع العرض فقط عندما يتطلبه الطلب الدائم على اليوان. وفي غضون ذلك، يتوقع المحللون انخفاض قيمة الريال مقابل الدولار، إلا إذا كانت هناك زيادة كبيرة ودائمة في سعر النفط، وهو أمر غير متوقع بشكل عام. لكن تخفيض قيمة العملة يتطلب فعلًا متعمدًا من قبل الدولة.
ومن الواضح أن كلاً من المملكة العربية السعودية والصين لديها كميات هائلة من الدولارات الفائضة سيتم التخلص منها في السنوات القليلة المقبلة. كما ذكرنا من قبل، يمكن للصين بسهولة توفير 100 مليار دولار من مخزونها لشراء حصة أرامكو والبالغة 5 في المائة، وهي دولارات سيبيعها السعوديون ببساطة في أسواق الصرف الأجنبي وبالتالى يتم إنفاقهم محليًا. وفى المقابل يمكن للصين أن تقدم المزيد من القروض بالدولار إلى المملكة العربية السعودية، وهى مؤمنة مقابل مبيعات النفط المستقبلية ويمكن سدادها باليوان، ربما بسعر صرف محدد مسبقًا. وعليه سيحصل السعوديون على دولارات لإنفاقها، ويمكن للصين أن توازن بين العرض والطلب في المستقبل على اليوان.
كان سعر برميل النفط عام 1966، قبل خمسين سنة، 2.75 جرامًا من الذهب. اليوم هو 1.0 جرام من الذهب، لذلك ارتفعت القوة الشرائية للذهب المقاسة ببراميل النفط ثلاث مرات تقريبًا. وبالدولار، كانت الأسعار 3.10 دولار و 40 دولارًا على التوالي، لذلك انخفضت القوة الشرائية للدولار المقاسة ببرميل النفط بنسبة 92 في المائة. ونتوقع استئناف مثل هذه الاتجاهات.
سعر النفط فى العصر الحديث: أنهار سوق النفط في عام 2020 بسبب حرب الأسعار بين روسيا والمملكة العربية السعودية، والانكماش الاقتصادي العالمي الحاد الناجم عن أزمة COVID-19. وقد أدى ذلك إلى انهيار الأسعار الى مستويات لم يتوقعها أحد سواء من المستثمرين أو محللى سوق الطاقة. وقد تحول سعر النفط الامريكى الى سلبي لأول مرة في التاريخ. الفائض التاريخى للمعروض وصولا الى قرب أمتلاء التخزين العالمى منه أدى إلى انخفاض سعر خام غرب تكساس (WTI) الى ما دون الصفر بل تم دفع أموال لمن يشترى السلعة.
فيروس كورونا
وفي حين شهدت أسعار النفط انتعاشًا متواضعًا بعد الانهيار، فمن غير الواضح ما إذا كانت المكاسب مستدامة. والسبب أنخفاض الطلب على النفط بوتيرة أسرع من العرض فى ظل أنكماش حاد للاقتصاد العالمي.
ويمثل الاضطراب الأخير فصلاً دراماتيكيًا آخر في تاريخ النفط، والذي شهد تقلبات شديدة على مدى خمسة عقود. وقد أثار تحركات الأسعار هذه قائمة طويلة من الأحداث الجوهرية، بما في ذلك حظر النفط العربي في أوائل السبعينيات، وحرب الخليج الأولى في أوائل التسعينات، والركود الكبير لعام 2007-2009، والآن جائحة COVID-19 لعام 2020 .
هدف منظمة الاوبك: تأسست منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في عام 1960. وكان الهدف لها هو “تنسيق وتوحيد السياسات البترولية بين الدول الأعضاء، من أجل تأمين أسعار عادلة ومستقرة لمنتجي البترول”. حيث يعمل أعضاء أوبك ككتلة، سعياً إلى زيادة عائدات مبيعات النفط عن طريق تعديل الإنتاج في ضوء الظروف الاقتصادية العالمية والطلب السائد.
الخلاصة:
البترودولارات هي دولارات تدفع للدول المنتجة للنفط مقابل النفط. ويعود ظهور البترودولار إلى أوائل السبعينيات عندما توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاقية مع المملكة العربية السعودية لتوحيد بيع النفط على أساس الدولار الأمريكي.
يخلق إعادة تدوير بترودولار طلبًا على الأصول الأمريكية عندما يتم استخدام الدولارات المستلمة لمبيعات النفط لشراء استثمارات في الولايات المتحدة.
• إعادة تدوير البترودولار مفيد للدولار لأنه يعزز النمو غير التضخمي.
• يمكن أن يؤدي الابتعاد عن دولارات النفط إلى زيادة تكاليف الاقتراض للحكومات والشركات والمستهلكين إذا أصبحت مصادر الأموال شحيحة.
• الولايات المتحدة الامريكية أصبحت منتج كبير للنفط.
• التغيرات العالمية الاخيرة والتى أحدثها فيروس كورونا والتى لم تنتهى بعد ولا يعرف متى ستنتهى. تضع نظام البترودولار فى مأزق حقيقى.
• المملكة العربية السعودية فى طريقها الصحيح لتنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط فقط. وأتمام رؤية 2030 ستضع المملكة بكل تأكيد فى مصاف الدول العظمى ذات التأثير القوى والمباشر على السياسة العالمية.